كرم نعمة يكتب:

زمن القصص عاد فالصحف غير جديرة بالقراءة

لم تعد الصحف جديرة بالقراءة، أنها عاجزة عن الخروج من طبيعة التكرار الممل، الصحافيون لم يعودوا كما كانوا، منذ أكثر من عقد أُنزلوا من برجهم العالي، صار الناس كلهم صحافيين!

المتعة المرتجاة والفائدة التي كانت تقدمها الصحف تلاشتا منذ سنوات، وهذا إحساس ينتاب القراء الأوفياء أكثر مما هي مزاعم أناس لا يحبون القراءة، المجتمع البريطاني شاهد مثالي عن القراء الأوفياء، لكن الصحف لم تعد كذلك، وصارت تثير الملل أكثر مما تقدم الفائدة والمعلومة.

مازال ثمة من يذهب صباح كل يوم إلى المقهى القريب من منزله من أجل هدف قائم يتلخص في قراءة الصحيفة وعدم التنازل عنها مع قدح القهوة، ومازال من يفضل قراءة الصحف في القطارات والحافلات بوصفها الحل الأمثل في استغراق مسافة الطريق، لكن ماذا عن الصحف نفسها، هل مازالت قادرة على تقديم المحتوى الذي يدفع إلى عناء الاشتراك بها أو شرائها؟

قراء في المجتمع البريطاني صاروا يشكون في ذلك، ليس لأن سلوك القراء تغير ويصعب العودة به إلى الوراء، بل لأن الصحف نفسها غير قادرة على الوصول إلى الطريق الأمثل لشغف القراء، فالبدائل التكنولوجية المتاحة قد سبقتها في تقديم طبق من المحتوى الإخباري والتحليلي، جعل كل ما تعيد طبخه الصحف بائتا في اليوم التالي.

من حسن حظ المجتمع البريطاني أن الصحف المجانية متاحة له ومشجعة على القراءة، هناك صحيفة المترو التي توزع في محطات القطارات وصحيفة ايفينيغ ستاندر المسائية المجانية، وهما صحيفتان تعبران عن مؤشر القراءة بين الجمهور، ومقدار ارتفاعه أو تراجعه.


هذا التقليد في الصحف المجانية لا يقتصر على بريطانيا وحدها، لكنه لسوء حظنا غير متاح في العالم العربي مثل قائمة الخسائر التي نبلى بها ليس في القراءة وحدها.

مازالت الصحف المجانية متاحة، لكن القراء أقل، لأن الصحف أقل أهمية مما كانت عليه، ومع ذلك لا يستمر فعل القراءة بالنسق القديم الذي كانت تغري به الصحف، أنا شاهد على زمن لندني كان قراء صحيفتي الغارديان والتايمز يشكلون نسبة معقولة من مسافري القطارات، دعك عن الصحف الشعبية وقرائها. أما اليوم فيندر أن تجد من ترك لك بعد نزوله من القطار نسخة من هذه الصحف المرموقة، في إشارة إلى كرمه المعرفي، لقد تراجع عدد مقتني الغارديان والتايمز أصلا.

مازالت القراءة الوسيلة الجليلة التي يقدمها الكتاب الورقي، أو نقرأ بالبدائل المتاحة لأجهزة القراءة الرقمية، فعل القراءة جزء من التوق المعرفي لدى الإنسان، ولن يتراجع بقدر ما يتحول إلى طريقة قراءة مختلفة، لكن السؤال الجدير في الإطلاق: ماذا نقرأ وكيف، ومن بقي جديرا بالقراءة في زمن معلوماتي هائل ومتضخم، صعبت فيه الخيارات، أي محتوى يقدم لك الجديد الخالي من التكرار؟

يبدو من بين أهم إجابة على تلك التساؤلات، أن الصحف كانت الضحية الأولى في تراجع القراءة! بالطبع هناك من لا يتحمل ثقل الكتاب وطريقة حمله ويفضل وسائل القراءة التكنولوجية الأخف، من دون أن يتراجع شغفه بالقراءة.

واليوم مجاميع القراء المحظوظين في بريطانيا أمام تجربة جديدة، اسمها صحف القصص القصيرة! إذا صار متاحا طباعة قصص قصيرة من أجهزة تم نصبها في حي “كناري وارف” في مراكز التسوق والأماكن المحيطة بالحي التجاري.

تبدو الفكرة مدهشة وهي لم تتعد بعد بضعة مكائن طباعة تشجعك على قراءة قصة قصيرة، قد تحمل الدهشة أو الحكمة ولا تستغرق أكثر من بضعة دقائق، أنها صحيفة ورقية من طراز مختلف في زمن رقمي.


الفكرة كما تبدو لي ليست متعلقة بفن القصة القصيرة والتشجيع عليه، مع أن الشغف بالرواية لم يتراجع بعد، والقصة فن لم يفقد مكانته بين الأجناس الأدبية، بل بمفهوم القراءة كفعل متغير في الزمن الرقمي. لأننا لن نجد بعد بين قراء قصص “كناري وارف” من يتشبه بأمبرتو إيكو ويقرأ مقاطع بصوت عال عله يتحسس نبرة السرد القصصي.

القصة القصيرة التي يطبعها القارئ من مطابع مجانية في وسط لندن، تجدد فعل القراءة وتقترح علينا وسيلة التواصل مع الخيال، للتخلص على الأقل من وقع التكرار في القصص الإخبارية المستمرة.

صار بمقدورنا اليوم قراءة القصة مثل اقتناء قدح قهوة أو مشروب بارد، إنها بمثابة شحنة خيال كهربائية ترفع من مجد الأدب في العصر الرقمي، قد يتزاحم عليها الناس مستقبلا مثل تزاحمهم اليوم على أجهزة شحن الهواتف المنصوبة في المتاجر والمحطات.

المبادرة في مستهلها، وهي معرضة لكل السيناريوهات بما فيها الفشل، وقد تتطور وتصبح القصص القصيرة مطولة، وأكثر من بضع صفحات أو قد تأخذ منحى آخر أكثر من ضغطة زر مجانية، إلا أنه في النهاية مازال هناك من يقرأ ويتوق لهذا الفعل كلما تسنى له ذلك، والعصر الرقمي لن يزيح القراءة بقدر ما يقدم بدائل أسهل للاستمرار فيها.

لقد أضافت مبادرة وضع مطابع مجانية في لندن للقصص القصيرة تهديدا جديدا للصحف الورقية، وهذا قد يجعلها مستمرة بالرقاد في السوق المريضة! الصحافيون يدركون قبل غيرهم أن صحفهم مهددة، ولم يبتكروا بعد وسيلة مواجهة هذا التهديد.