سمير عطا الله يكتب:
مفكرة القرية
لا أعرف من يبشّر للربيع أولاً: طيور السماء أم زهور الأرض. الطيور تُقبل، فرحة، مغردة، والأرض تترك نفسها للأزهار، تلوّنها، وتبسط عليها جمالها. والطيور مثل الزهر، أنواع. البلابل والعصافير، وثمة عقاب يحلّق عالياً كمن يراقب حركة الحياة تحته. ويسميه القرويون «الشوحة» لأنه ينزل سريعاً على نحو جانبي غير مستقيم. ثم لا يلبث أن يرفرف صعوداً بسرعة أبطأ، يعاكسه جناحاه، كما تعاكس الرجل سرعته في الطلوع.
ما الأجمل؟ الزهر أم الطير؟ دعك من الأسئلة الصبيانية. تمتع. إنه الربيع يزداد نضوجاً. البرتقال يبدأ زهره في الانعقاد. والكرز يتهيأ، والعصافير تستكشف كأنما هي صاحبة الأرض وشريكة الموسم. وخوفاً أن ينقصها شيء لدى مرورها بنا، أكثرنا لها صحون القمح في أمكنة كثيرة. تأخذها كلها، لكنها تمر أيضاً بشجر الرمان. وقد احترت عندما رأيت أكواز الرمان مأكولاً نصفها، وسألت السيدة الجنيناتية زوجتي عن السبب، فقالت إن العصفور الماكر يأكل النصف الناضج من الثمرة، ويترك الباقي إلى أن ينضج أيضاً، فيعود إليه. الحساسين لا تستسيغ الحموضة. فقد تؤثر على عذوبة الألحان.
يقول القرويون بعد حياة طويلة في الحقول: «لا يخلو رأس من حكمة» لا يغرَّنك حجم رأس العصفور. عندما كنا شباباً، اصطاد أحدنا عصفوراً فوجد نحاسة ملصقة على قائمته كُتب عليها: من يجده فليكتب إلى هذا العنوان في السويد. وكان عنوان كلية من جامعة أبسالا، التي تخرج فيها داغ هامرشولد، ثم درّس فيها، قبل أن يصبح أشهر أمين عام في تاريخ الأمم المتحدة.
أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً
منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا
وَرَقّ نَسيمُ الرّيحِ، حتّى حَسِبْتُهُ
يَجيءُ بأنْفَاسِ الأحِبّةِ، نُعَّمَا
لكن متى خلا البحتري إلى الربيع؟ عندما أصبح في مثل ما نحن من العمر: «... إلى أنْ مَضَى شرْخُ الشّبابِ، وَبعدَمَا». لكن بعدما ماذا؟ وحده الربيع يتجدد كل عام ويبقى شرخ شبابه فيه. يتجمل ويتلون ولا يشيب. وتهل له الكائنات والجماد. ومن أجله تعبر الطيور بلاد الثلوج وتغادر رقي السويد إلى أن تموت ببندق صياد في جبال لبنان.
في المشوار القادم إلى القرية، يكون قد حان مع انعقاد شجرات الكرز الثلاث. وقبل أن نصل، تكون العصافير قد مرت بها، حبة حبة، وسلخت بمناقيرها الجميلة، قشرتها الحمراء، وأبقت البذرة معلقة بعنقها كما هي. غابة من الكرز المقشر كما لو في مصنع. لا تترك العصافير حبة واحدة لنا. نحن يبقى لنا ما يكفي. إنها تحصل لنفسها أجرة التغريد.