سمير عطا الله يكتب:
عشر خيزرانات
تتسربل حياة المصريين من دون زحمة نجوم. اعتادت مصر لزمن طويل أن تعيش تحت كل الأضواء في وقت واحد: في السياسة، وفي الأدب، وفي الفنون، وفي التاريخ، وفي الرياضة، وفي نسبة الولادات. واعتادت أن تكون إمارة الشِّعر فيها، وإمبراطورية الغناء عندها، وملوك الموسيقى العربية ملحّنيها، وشيوخ الصحافة من تابعيها (نسبة إلى محمد التابعي). إذا حكت أصغى العرب، وإذا غنّت هتفوا، وإذا أصدرت كتاباً تدافعوا إلى المكتبات. واليوم إذا طبعت كتاباً تحوَّم حوله المزوِّرون. باعت الطبعة الأولى من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى 12 ألف نسخة. وباعت النسخ المزوَّرة ضعف ذلك.
وثمة فرح بما لا يمكن تزويره، وهناك دعوات كثيرة الآن لتكريم عادل إمام في بلوغه الثمانين. أليس هو الزعيم؟ أليس الفن هنا هو مَن أضحك وأبكى أكثر من أي مسرح أو شاشة عربية، صغيرة أو كبيرة، من أيام الأبيض والأسود ونجيب الريحاني وبديع خيري وفؤاد المهندس و«مخصوم مِنك يومين»؟
دخل كثيرون على خط المنافسة مع مصر. وجاء كوميديون كبار من أماكن غير مزودة أو متوقعة إطلاقاً، كما قال شاعر البحرين، طرفة بن العبد، فهناك «عبد الحسين عبد الرضا من الكويت وناصر القصبي من السعودية». وأخصبت مواسم التفريخ في لبنان، لكن لم يظهر شوشو واحد أو شبهٌ لفيلمون وهبي. فالكوميديا لا تزال، كما كانت في كل مكان وزمان، أصعب الفنون. والدليل أنه كان في كل عصر مصري كوميدي واحد ونجوم كثيرون. وإلى زمن تقاسم «الزعيم» السحر الجماهيري مع سمير غانم وسعيد صالح ويونس (البائس) شلبي، لكنه ظل ماضياً إلى أن أصبح الزعيم. وبالتالي، الزعيم الأوحد بالمفهوم العربي.
تتأكد مصر عاماً بعد آخر من الحفاظ على زعاماتها. الآن يتطلب المزيد من الجهد. التهاون غير مجدٍ ويكرر تلقائياً حكاية السلحفاة والأرنب. ولا حياة في الماضي إلا باعتباره قدوة ومحفزاً. ولكن ألا يحق لمصر هذا الاعتداد، عندما تفيق كل يوم، وترى نفسها في موقع الشعوب والأمم، ما بين العرب وأفريقيا، المتوسط الأزرق والمتوسط الأحمر، ولها النيل يخصب الرمال ويلطف لظاها، ولها دولة صمدت آلاف السنين في وجه الخارج المفترس، أو خوارج الداخل. على النيل أمس، بدا لي كأن العرب جميعاً هنا، يحاولون –مثلي– أن يعوّضوا سنوات الغياب عن نداء القاهرة. إنهم لا يأخذون أخبارها من تلفزيونات إسطنبول التي تشبه حمزة أفندي مدرس الحساب، في ابتدائية نجيب محفوظ، الذي يوزع عشر خيزرانات على تلامذته. إنه العالم الوحيد الذي يعرفه المدرس حمزة. كوابيس قصيرة وتنتهي ويصبح التلميذ ذات يوم نجيب محفوظ، وكل سبب حمزة (المدرّس) في أن يذكر العشر خيزرانات!