سمير عطا الله يكتب:
جوار العمالقة
أشرت غير مرة إلى ذلك الجزء من مكتبتي الذي أحتفظ به في القرية. وهو يضمّ في أكثره ما يمكن تسميته قراءات المتعة الخالصة. إنها الكتب التي أعود إليها عاماً بعد عام، من دون أن يكون الهدف تدوين ملاحظات أو البحث عن مواضيع ومادة للكتابة. يعطيك الهدوء في القرية حاسّة إضافية من حواس العقل والعاطفة. ويعمّق خلوتك مع الذات، ويصرفك إلى نفسك دون أي شيء آخر. على هذه الرفوف البسيطة، تقبع في فوضى جميلة روائع العظماء والعباقرة: الأدب الروسي، الشعر الفرنسي، التحف الآيرلندية، اللاتينيون والأميركيون. ودون أي قصد تتجاور منذ سنوات أعمال طه حسين مجلّدة باللون الأخضر، وأعمال عباس محمود العقّاد باللون الأحمر، وكلها صادرة عن «الدار اللبنانية».
أحياناً أختار كتاباً وأغرق فيه طوال النهار من دون البحث عن كتاب آخر. وأحياناً أتنقل بين كتاب وآخر مثل العصافير الباحثة بسرعة عن غذائها، خوف أن يسبقها إليه أحد. وكلّما عدت إلى عمل ما، يُخيّل إليَّ دائماً أنني أقرأه للمرة الأولى، وأنني أعجب به للمرة الأولى أيضاً. ويحفّزني ذلك على إعادة النظر وإعادة التقييم والتأكد من أنني لم أخطئ في الاختيار، أو أنني أحياناً أخطأت في التقدير. أقدمت هذا الأسبوع على مغامرة إضافية: عدت إلى بعض مؤلفات العقّاد وطه حسين، محاولاً المقارنة بين عملاقي مصر. ما هذا التشابه الغريب في حياة الجبابرة.
كان عميد الأدب العربي يملي بأفكاره على سكرتير له ويستعين به، كما كانت تساعده زوجته، في الآداب الفرنسية. أما العقّاد فكان يعمل وحيداً. هو من يذهب لشراء الكتب وهو من يقرأ، وهو من يدرس، وهو من يقارن، وهو من يكتب. الاثنان لم يتركا شيئاً إلا وكتبا فيه: في الأدب العربي والتراث، في الآداب الغربية والفلسفة، في الفنون والقصة والرواية والنقد والشعر. وتحار أيّهما أكثر إبداعاً في ذلك الحرف الكبير. مرّة، تميل إلى هذا ومرّة تميل إلى ذاك، ومرّات كثيرة تفضل أن تبقى على حيرتك لأنها الخيار الأصحّ.
لطالما خاضا المعارك الأدبية العنيفة، وهما على قيد الحياة. وطالما تهادنا وتمادحا وتبادلا الإطناب. وكم كانا على حق. وبلغ الأمر بالعقّاد أن وصف العملاق الآخر بأنه «عميّ» وليس عميد الأدب العربي. وإذ تتذكّر مصر اليوم مرور 55 عاماً على غياب العقّاد، نتذكر جميعاً حضوره المذهل في عصر النهضة.