د. سالم حميد يكتب:
نقد تاريخ الفتوحات ضرورة لتجديد الخطاب
تبقى المسألة الدينية إجمالا ذات حساسية عالية، لأن المجتمع يسمح لعاطفته باستدعاء التقديس على كل النقاشات والحوارات الفكرية، طالما كانت على صلة بالدين، بما في ذلك كل ما يقبل الخضوع للاجتهاد والنقد والمراجعة.
لذلك فإن نقد الماضي سواء كان ينتمي إلى المقدس الديني أو الاجتماعي يحتاج إلى شجاعة، وإلى مواجهة ثقافية لا تخشى منطق المتطرفين بحيث لا تستثني ما يظن العقل الجمعي أنه يستحق الفخر، مثل تاريخ الفتوحات الإسلامية، التي لا بد من الاعتراف بأن بعض محطاتها أساءت إلى الحضارة الإسلامية وإلى العرب الفاتحين أكثر مما خدمتهم.
يجب أن نعلم أن مرحلة الفتوحات كانت عملا عسكريا قامت به دولة الإسلام، التي كانت قد استقرت وترسخت، وعملت على تكوين الجيوش، وذلك يجعل الفتوحات قائمة على محفزات اقتصادية وسياسية، مهما تم تغليفها بإطار ديني للاستهلاك والتبرير.
ونتيجة للتقديس المبالغ فيه لكل ما يتصل ببدايات الإسلام، نجد أن تاريخ الفترات الإسلامية المختلفة لم يوضع في ميزان النقد، واستمر الوعاظ والفقهاء في اجترار محطات التاريخ الإسلامي لتحفيز المسلمين، وإظهار أنهم على صواب في كافة المراحل. بل إن الجماعات الإرهابية تعتمد أيضا على استشهادات ومؤشرات من تاريخ الفتوحات، وتستغلها للتنظير والتبرير لتوجهات الإرهابيين في الزمن الحاضر بأثر رجعي. بينما غاب النقد العقلاني الذي كان من شأنه أن يحدث تغييرا في التفكير والموقف من الآخر المختلف مع المسلمين عقائديا.
هذه قضية حساسة لا يجرؤ الكثيرون على مناقشتها، لأنها تجعلهم يعيدون النظر في تاريخ الفتوحات التي لم يتم نقدها، بل تم تقديسها. كما أن الزوايا التي تتطلب النقد في الفكر الإسلامي متعددة ولم يتم حسمها، مما جعل نقد مرحلة الفتوحات بعيدة عن التناول.
ولنا أن نتخيل مدى تأثير النقاش المتأخر في القرن الـ21 حول جواز مصافحة أهل الكتاب وتهنئتهم بأعيادهم، ومدى انعكاس ذلك على تأخير الانتقال إلى نقد الموقف من الآخر ومن التوجه إلى غزوة لنشر الدين بالقوة، وكيف شكّلت بعض مراحل الفتوحات الإسلامية بداية الصدام الحضاري، وهو ما تبلور في الزمن الراهن، وأصبح يمثل موجة ثانية بعد الحروب الصليبية، ولكن على هيئة تنظير غربي وردود أفعال ومواقف أكاديمية وإجراءات أمنية في المطارات.
ولعل الإسلاموفوبيا تمثل أحدث موجة تسببت فيها غزوات الإرهابيين في شوارع أوروبا. وقبلها كان صامويل هنتنغتون صاحب كتاب “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” قد بدأ بالتنظير للصدام الذي نعيشه الآن. وثبت أن الصدام أصبح من الناحية الأمنية بين الغرب والجهاديين الذين تمت تغذيتهم في الشرق لدحر الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، ثم بعد أن انتهت مرحلة التوجيه والسيطرة عليهم، تحولوا إلى خطر يستهدف أمن الدول والمجتمعات، وعادت مفردات الغزو والفتح إلى القاموس المعاصر للمتطرفين! وأبرزها ما أطلق عليها أسامة بن لادن في 11 سبتمبر 2001 بغزوة مانهاتن!
ونرى أن قضية نقد تاريخ الفتوحات الإسلامية لا تزال بعيدة عن التناول. وسبق أن كتب الكثيرون حول ضرورة تجديد الخطاب الديني وعدم تقديس التراث. لأن التفسير الحرفي للنصوص أتاح للمتطرفين فرصة الاستناد على تأويلات متشددة للنص الديني. لكن نقد الخطاب المتشدد لم يتطرق إلى قضية نقد الفتوحات أو مراجعتها، رغم أنها لا تقل أهمية عن خطر تأويل النص الديني.
لقد أدى تاريخ انتشار الإسلام في بعض محطاته إلى حملات عكسية تسببت في ضرر كبير للعالمين العربي والإسلامي. ونقصد أن الاتجاه غربا نحو إسبانيا على سبيل المثال هو ما جلب الحملات الصليبية إلى الشرق.
ورغم خطورة تلك المرحلة، إلا أن الحديث عن إعادة النظر في تاريخ الفتوحات وتقييمها من منظور حضاري لا يزال مستبعدا. وعندما يتم التطرق إلى هذا الموضوع لا يحظى بالحماس والاستعداد لقبول الخوض في النقد، لأن الأغلبية تفضل التعامل مع هذه القضية الحساسة من خلال مشاعر الفخر والتباهي بوصول فرسان الفتوحات وخيولهم إلى أوروبا.
دون التفكير في عواقب الزحف الإسلامي المقدس، وكيف أدى إلى تقديم صورة سوداوية عن الإسلام، بعكس الصورة الحضارية المشرقة التي تشكلت عن العرب والإسلام في منطقة جنوب شرق آسيا، وبالتحديد في إندونيسيا وماليزيا، حيث الجغرافيا ذات الكثافة السكانية قد استوعبت الإسلام من دون فتوحات عسكرية، لأن أخلاق وتعاملات التجار والمهاجرين المسلمين من جنوب وشرق الجزيرة العربية كانت كافية لانتشار الإسلام وتوطين الجانب الحضاري المشرق منه في تلك الدول.
أما زحف وغزو المسلمين لإسبانيا بالقوة العسكرية، فلم ينتج عنه سوى خروجهم بأسلوب يستدعي الرثاء حتى يومنا هذا. ولفت انتباهي قبل أيام مقطع من حوار متلفز مع الكاتب السعودي علي الهويريني، ينتقد فيه غزو المسلمين للأندلس، وقال إن الإسلام لم يأمرنا بعبور البحر لغزو النصارى في الأندلس.. هذه ليست فتوحات إسلامية، بل غزوات عربية كانت نكسة على الإسلام. وتذكرت مقالة قديمة نشرتها قبل ثماني سنوات حول الموضوع ذاته، وبخاصة حول لحظة مغادرة المسلمين للأندلس التي كتب عنها الكثيرون، ولكن من دون انتقاد لقضية الفتوحات، بل من زاوية الحزن والحنين إلى المملكة الضائعة.
كان سقوط آخر معاقل العرب في غرناطة في الثاني من يناير عام 1492، بعد حكم دام 778 عاما، وبخروجهم وزوال دولتهم احتفلت أوروبا بأكملها بذلك الانتصار، أما قصر الحمراء فقد أدهش بالفعل أعين الأسبان بما رأوه عقب انتهاء الحكم العربي من أبنية ونوافير ومخادع فخمة مزينة ومطرزة بالأرابسك، وما شاهدوه على الجدران والسقوف من زخارف في غاية الروعة. لكنه يظل شاهدا على أن خروج العرب من الأندلس يدل على أنهم دخلوها بسيوفهم وليس بحضارتهم وعقولهم. وعندما تم وضع التاج الإسباني في قاعة قصر الحمراء، دخل من تبقى من وجهاء العرب في غرناطة، لتقبيل يدي الملكة إيزابيل وزوجها فرناندو، وبهذا الشكل انتهى الحكم العربي للأندلس، ولم يحافظ عليه أبوعبدالله، الذي وبخته أمه قائلة “ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال”.