د. سالم حميد يكتب:
تهجير اليهود العرب.. ضرب للتنوع وخدمة لإسرائيل
هناك أحداث مفصلية في التاريخ القريب، لا يمكن المرور عليها بسطحية، من دون تأمل الدروس المستفادة منها. ومما يساعد على العودة إلى تلك الأحداث، التي نضعها غالبا في الأرشيف المنسي، أن بعض أفلام السينما العالمية تستعيدها، وبالتحديد تلك النوعية من الأفلام التي تنجح في تكثيف أحداث سابقة، لتعيدها إلى ساحة التأمل والجدل.
من بين ما لفت انتباهي من قصص الأفلام الجديدة، عملية تهريب يهود الفلاشا الإثيوبيين من السودان إلى إسرائيل. ولا شك أن الجمهور العربي محكوم بنظرة شعبوية متوارثة، تدفعه إلى ترحيل النظر في بعض الأحداث، بالاتجاه مباشرة نحو عدم القبول بما يمكن أن يستنتجه منها، بينما يحرمنا هذا النهج القائم على الإنكار والتجاهل من استخلاص دروس وإن جاءت متأخرة، على الأقل لتلافي الخيبة والعجز السياسي، الناتج عن التعامل مع العديد من القضايا بمنظور عاطفي. لأن ما يحدث هو أن الوعي العام يلجأ إلى الإنكار والقفز على القضايا التي تكون لها حساسية سياسية قومية، بدلاً من مواجهتها. وبتلك الطريقة يتهرب العقل الجمعي من إخضاع العديد من المحطات التاريخية للتفكير والتمحيص والمراجعة.
قبل أيام كنت أشاهد أحد أفلام هوليوود الجديدة لهذا العام، بعنوان The Red Sea Diving Resort ويحكي قصة من ثمانينات القرن الماضي، حول تهريب الآلاف من يهود الفلاشا الإثيوبيين من السودان إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر.
صحيح أن هوليوود مشهورة بإنتاج هذا الصنف من الأفلام التي تتحدث عن الأبطال الخارقين، وعن عمليات الإنقاذ المعقدة التي تظهر شخصية البطل (السوبر). وصحيح أيضا أن فيلم “منتجع البحر الأحمر للغطس” لا يخلو من حملة الدعاية الإسرائيلية المعتادة، التي تستخدم الدراما ضمن أدواتها. إلا أن فضاءات الزمن والمكان الذي تدور فيه أحداث الفيلم الواقعية، لا يجب أن تمر سريعا وكأنها لا تخص منطقتنا العربية ومحيطنا القريب. لأن عمليات حشد اليهود إلى فلسطين، التي تعتبرها الحركة الصهيونية وعامة اليهود أرض الميعاد، كانت ولا تزال تمثل أساس ظهور كيان الدولة الإسرائيلية إلى الوجود. فعمليات التهجير والترحيل هي التي شكلت مجتمع الدولة العبرية، من خلال صناعة واستجلاب شعب بأكمله من الشتات. بما في ذلك اللجوء إلى تهجير وتوطين اليهود الإثيوبيين، رغم أنهم من بيئة مختلفة ومن لون مختلف عن يهود أوروبا!
لا يخلو سيناريو الفيلم وحبكته من استدعاء بطولة خارقة لجهاز الموساد الإسرائيلي، لكن -ومع كثافة هذا الملمح الدعائي الصارخ- يجب ألا يحجب عن المشاهد اللبيب مهمة إعادة قراءة الماضي، وكيف أسهمت بعض الأقطار العربية بدورها في رفد المجتمع العبري بمئات الآلاف من اليهود، الذين شكلوا مجتمع الدولة القائمة حتى اليوم على حساب الفلسطينيين. في مضمونه العام نجح الفيلم إجمالاً في إظهار حس التضامن والتعاضد بين اليهود، من خلال إبراز الجهود الخارقة وذات المخاطر العالية التي بذلت من أجل ترحيل يهود الفلاشا. وليس مهمّا بعد ذلك كيف عاشوا في المجتمع الجديد غير المألوف.
فقبل أسابيع كانت وسائل الإعلام العالمية بل والإسرائيلية تنقل مشاهد غاضبة وتظاهرات وأعمال شغب قام بها يهود الفلاشا، ولم تكن المرة الأولى التي تحدث فيها مثل تلك الاحتجاجات. لكن الرسالة التي نجح الفيلم الهوليودي الإسرائيلي المصنوع بدهاء في توصيلها، تعمل بشكل غير مباشر على تحريك انطباع مزدوج لدى المتلقي العربي المنصف، يتزاوج فيه الشعور بالإحباط تجاه الواقع العربي وما أصبح يتميز به من فوضى وعنف وإرهاب وتفكيك للمجتمعات والدول، في مقابل الإعجاب التلقائي بتلك الروح التضامنية الإنسانية التي يبرزها الفيلم. وهذا ما ينقص العرب وما يفتقدونه طوال العقود الفائتة.
المئات من القصص المدفونة عن اليهود العرب لم تكشف بعد، خاصة أنهم تعرضوا للتهجير والطرد، كما حدث على فترات متباعدة مع يهود اليمن، الذين بدأت عمليات تهجيرهم بالآلاف منذ 1948
في مفاصل القصة، تمضي أحداث الفيلم لتحكي خطوات عمل استخباراتي محترف، يعتمد على تمويه جهاز الموساد، الذي أرسل فريقا يعمل تحت واجهة شركة تروج لسياحة الغطس والتصوير تحت الماء. بينما يقوم الفريق بزيارات لتجمعات اللاجئين اليهود في السودان، الذين هربوا من أثيوبيا، في عهد نظام الشيوعي منقستو هيلي ماريام، أواخر السبعينات، وما صاحبها من عمليات تطهير عرقي وتعذيب. وتقتضي الخطة -حسب الفيلم- تهريب اليهود الفلاشا على دفعات عبر البحر. وذلك ما تم بالفعل.
لندع الكتابة النقدية عن هذا العمل للمختصين بالنقد السينمائي، ويهمنا تأمل الأثر الذي يخلفه في الوعي العام، وخاصة لدى المتلقي العربي. بعيدا عن كونه فيلما دعائيا مأخوذا عن كتاب من تأليف أحد أعضاء الموساد الإسرائيلي، تضعنا مشاهد حس التضامن والتلاحم بين اليهود أمام صورة عربية وإسلامية معاكسة، عنوانها في الزمن المعاصر التوحش والعنف والكراهية التي يمارسها من يظنون أنفسهم في عالمنا الإسلامي الأكثر التزاما وتدينا. كما نلاحظ ضمنيا مدى ولاء اليهود وتكاتفهم، وسعيهم لتحقيق غاية لم الشمل، ولو تطلب الأمر المخاطرة من أجل إنقاذ فرد واحد، كما يظهر في أحد مشاهد الفيلم، أثناء إنقاذ أحد الأطفال من موت محقق وإلحاقه بأسرته.
غير بعيد عن يهود الفلاشا الإثيوبيين، لا بد أن المئات من القصص المدفونة عن اليهود العرب لم تكشف بعد، خاصة أنهم تعرضوا للتهجير والطرد، كما حدث على فترات متباعدة مع يهود اليمن، الذين بدأت عمليات تهجيرهم بالآلاف منذ 1948.
الحقيقة المرة أن العرب خدموا إسرائيل ورفدوها بالكثافة البشرية، وبما يقرب من نصف تعدادها السكاني تقريبا. وفي المقابل تم ضرب التنوع الثقافي والديني، وخسرت المجتمعات العربية العمالة اليهودية الماهرة في مختلف الحرف والفنون، بما في ذلك في المجال الإداري الحكومي.
وفي التاريخ الحديث للعراق نقرأ عن ساسون حسقيل، اليهودي العراقي الشهير الذي تقلد حقيبة وزارة المالية وأبدع في موقعه وخدم بلده بتميز. وكان بإمكان الدولة العربية القُطرية الحديثة إدماج اليهود العرب تحت مظلة المواطنة. لأن الترحيل القسري والتهجير لم يمنحا إسرائيل كثافة سكانية فحسب، بل أخذا من البلدان العربية ميزة التنوع الثقافي، كما سلب تهجير اليهود وطردهم أفضل الكفاءات والخبرات التي استفادت منها إسرائيل وخسرتها البلدان الأصلية لليهود العرب.
وعندما نتحدث في هذا العقد عن كفاءة الدول، يلاحظ أن البلدان ذات التنوع الديني والثقافي تتميز بالكفاءة العالية. أما الحديث عن النقاء العرقي فإنه لا يثمر شيئا. فحتى إسرائيل لا يمكن النظر إلى مجتمعها إلا باعتباره خليطا متنوعا من الثقافات الأصلية التي تميز سكانها، خاصة أن العلمانية تجعل من اليهودية كديانة مسألة عقائدية لا تطغى على ألوان التنوع الثقافي الذي يمزج الأجناس المتعددة، الأوروبية والروسية والعربية. والأمر ذاته ينطبق على الولايات المتحدة أكبر قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم، إذ يخدمها التنوع الهائل المميز للخليط البشري الأميركي.
فهل يعي العرب الدرس ويرفعوا من قيم المواطنة والعلمانية والتسامح؟ أم أن العنصرية والتنابز بالألقاب ومشاعر الكراهية ستظل تعشش في العقول؟