كرم نعمة يكتب:
جورج أورويل تنبأ بالحقائق البديلة ودونالد ترامب قاد جوقتها
يستعيد دوريان لينسكي مؤلف كتاب “33 دورة في الدقيقة: تاريخ أغاني الاحتجاج” الأجواء التي كتب فيها جورج أورويل روايته 1984، مع الأجواء التي أدى فيها دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة الأميركية اليمين الدستورية. في كتاب جديد أشبه برحلة عاطفية يدرس مدى أهمية رواية 1984 في عصر ما بعد الحقيقة، عصر ترامب بامتياز.
ثمة مشترك بين التاريخين المتباعدين نسبيا، يمكن جمعه بحزمة من التسميات والمصطلحات الشائعة في وسائل الإعلام اليوم. لقد سجل أورويل نبوءته منذ ذلك التاريخ، وتحققت اليوم في ما نطالعه ونتصفحه ويمر علينا كتدفق مستمر ومتواصل. فلا شيء مبني على كذبة مهما كان مغريا يمكن أن يكون له قيمة في النهاية، ذلك ما تحاول بعض وسائل الإعلام تعمد نشر الأكاذيب كخطاب مدفوع الأجر أو تجنّب الوقوع في فخها للمحافظة على القيم الصحافية.
أصبحت العبارات والمفاهيم التي سبكها أورويل تركيبات أساسية للغة السياسية والإعلامية، ولا تزال لامعة بعد عقود من الاستخدام، لم تصدأ كلمات مثل سوء الاستخدام، الجريدة الرسمية، الأخ الأكبر، رجال الفكر، الكراهية، التفكير المزدوج، انعدام الشخصية، الذاكرة المثقوبة، وزارة الحقيقة… بينما تحوّل بطل رواية 1984 إلى مرادف لكل ما يكره ويخشى منه.
يستذكر دوريان لينسكي في كتابه الجديد “وزارة الحقيقة: سيرة حياة رواية 1984 لجورج أورويل” الذي نشرت صحيفة الغارديان فصلا منه تصريح السكرتير الصحافي للرئيس الأميركي عندما زعم بأن حفل تنصيب ترامب شهده أكبر جمهور في العالم على الإطلاق، إلا أن لا أحد يرى ذلك فالحفل منقول على الشاشات ومن حضر المراسيم لا يمكن أن يصدق الكذبة الكبرى، وعندما طُلب من كيليان كونواي مستشارة الرئيس تبرير مثل هذه الكذبة الزائفة، عادت إلى مصطلح “الحقائق البديلة”.
لا أحد يعرف أن كانت قد استعادتها من رواية جورج أورويل، أم أنها استوحيت من عصر ترامب نفسه، لكننا سنعرف لاحقا أن تصريحات ترامب زادت بشكل كبير من توزيع رواية 1984! فخلال خطاب ألقاه ترامب في يوليو 2018 قال “ما تراه وما تقرأه ليس ما يحدث”.
وبعد تصريحات مستشارة ترامب عن الحقائق البديلة وصفت مجلة هوليوود ريبورتر رواية 1984 “بالقطعة الأدبية الأكثر سخونة في البلاد” وأعلنت العشرات من دور السينما في جميع أنحاء الولايات المتحدة عن إعادة عرض فيلم مايكل رادفورد 1984.
عندما نُشر كتاب جورج أورويل في المملكة المتحدة في 8 يونيو 1949، في قلب القرن العشرين، تساءل أحد النقاد كيف يمكن لمثل هذا الكتاب أن يمارس نفس القوة على الأجيال القادمة.
ومع توقع نقاد آخرين أن هذه الرواية سوف تتضاءل مع مرور الوقت، إلا أنه بعد عقود على إصدارها مازالت 1984 الرواية التي نستعيدها كلما كان الحديث عن تشويه الحقيقة في وسائل الإعلام وعندما يتم إساءة استخدام السلطة، بل أنها بمثابة المعبّر بامتياز عن أسوأ مخاوفنا عن نهاية العالم.
لقد طبع من الرواية عشرات الملايين من النسخ وبكل اللغات تقريبا، وتسللت إلى وعي عدد لا يحصى من الناس الذين لم يقرؤوها، وتم إعادة تقديمها في السينما والتلفزيون والإذاعة والمسرح والأوبرا والباليه، وقد أثرت في الروايات والأفلام والمسرحيات والبرامج التلفزيونية والإعلانات المصورة والخطب والحملات الانتخابية والانتفاضات.
قضى بعض الناس سنوات في السجن لمجرد قراءتها. لا يوجد عمل خيالي أدبي من القرن الماضي يعادل الانتشار الثقافي لرواية 1984 من دون أن يفقد تأثيره مع مرور الوقت. مع أن روائيين كبارا ونقادا مثل ميلان كونديرا وهارولد بلوم، وصفوها بالرواية السيئة، معتبرين متنها مجرد نثر لرسم مؤامرة وفكر سياسي متنكّر، لكنهم لم يتمكنوا من اكتساب أهميتها في كل ما نشروه. لأن نثر أورويل الشفاف يخفي عالما من التعقيد حسب وصف دوريان لينسكي.
وجادلت كاتبة الخيال العلمي الأميركية مارتا راندال بأن هناك شيئا واحدا لم يتنبأ به أورويل وهو انتشار التشاؤم “سيكون من الصعب جدا على الأخ الأكبر إقناع أي شخص بأي شيء بعد ووترغيت وبعد حرب فيتنام”. يمكن إضافة حرب احتلال العراق وأكاذيب جورج بوش وأسلحة الدمار الشامل وأخبار فيسبوك وفضيحة التنصت والمتاجرة بالخصوصية… إلى كلام راندال السابق.
لم يتوقف أورويل عن التفكير وهو يكتب روايته الأشهر، بل لم يتوقف مطلقا عن إعادة تقييم الآراء في متن الرواية. أو على حد تعبير الصحافي كريستوفر هيتشنز، أحد أكثر المعجبين ببلاغة أورويل “لا يهم ما تفكر به، ولكن كيف تفكر”.
وهكذا بقيت رواية 1984 نصا مروعا ومقنعا، قرأه الكثيرون أبان الشباب والمراهقة ولأنه بقي يشغل تفكيرهم أعادوا قراءته في أوقات لاحقة من أعمارهم كلما تصاعدت الأحداث في العالم، عند انهيار الشيوعية وسقوط جدار برلين ونهاية الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، صعود الشعبوية اليمينية المتطرفة والقومية الاستبدادية والتضليل المتفشي وتراجع الثقة في الديمقراطية الليبرالية.
حتى بعد أحداث 11 سبتمبر برزت أهمية الرواية وتم تطبيق وقائعها على اللغة السياسية وفي خطاب وسائل الإعلام أو في طرق المراقبة الأمنية، واليوم الرواية حاضرة ليس بسبب شعبوية ترامب وبريكست فقط، بل مع ارتفاع منسوب الديمقراطية في العالم وشيوع المراقبة والتجسس وانتهاك الخصوصيات، وما تقدمه شبكة الإنترنت من تجربة حية للإنسانية بوصفها قوة كبيرة إلى الأبد.
وهكذا أصبحت رواية جورج أورويل كتابا مصمما لإيقاظ الناس كلما ارتفع منسوب الحديث في وسائل الإعلام عن الديمقراطية والشمولية وموت الحقيقة، وليس مجرد رواية تخيّلت تاريخا قادما وصنعت منه أحداثا. أو بتعبير المخرج مايكل رادفورد أنها أشبه بالأسطورة التي تحرضك على ما تفعله، ويصفها بالمرآة قبل وبعد إخراج فيلمه 1984، لأنها بالنسبة للكثيرين اليوم كلما أعادوا قراءتها يصبح الأمر متعلق بشي آخر لم يجدوه في القراءة السابقة.
يتصاعد الحديث اليوم عن هدف أورويل من الرواية، وكيف تبرز أهميته في عصر ما بعد الحقيقة، لأن العالم لم يعد يرى الأخبار الموثوقة وهو يعيش وسط الأخبار الملفقة التي باتت تمتلك وزارة الحقيقة “فيسبوك” التي تنبأ بها مؤلف رواية 1984 قبل عقود، إلا أن كل ذلك رغم مسحة التشاؤم، قد يكون دافعا أقوى لبحث الناس عن الحقيقة التي تنبأ بغيابها جورج أورويل قبل أن يرفع جوقة عزفها دونالد ترامب. لأن جوهر رسالة أورويل كانت تتلخص في استمرار الإنسان بالإيمان في الحقيقة والمحافظة على روحها وطلب المعرفة من أجل منع استعباده.