سمير عطا الله يكتب:

البديل والأصيل

«بائع الكتب القديمة» في فيينا تحكي قصة رجل كرّس حياته لتصنيف الكتب والبحث عنها. طوال عمره لم يقرأ شيئاً آخر، ولم «يضع يده على جريدة». أنا أمضيت كل هذه السنين في قراءة الصحف ومتابعة أخبارها، أولاً بكل اهتمام، الآن بكل هم.
وقد صدف أنني عشت وعملت في غير بلد عربي وأجنبي، فتسنى لي أن أرافق تطور، أو تراجع، تلك الصحافات عن قرب. وفي كل مرة كانت تظهر صحيفة جديدة كنت أرى فيه مكسباً للمهنة ولحرفائها. وفي كل مرة غابت أو انحسرت صحيفة مهنية، شعرت بالقلق على المهنة برمّتها.
كل مرة أعود إلى الكويت، أو السعودية، أو الإمارات، أو البحرين، أمضي وقتاً في «تفقد الصحافة اليومية، وليس في قراءتها». أراجع نسبة الإعلانات وأنواعها، وأبحث عن الكتّاب الجدد، وعن تغييرات الشكل أو الإخراج، الذي هو بالنسبة إلى مثل «وردة جوى جنينة».
لاحظت في جدة، هذه الزيارة، أن جميع الصحف السعودية اتخذت الحجم المعروف في الصحافة بـ«البرليني» نسبة إلى برلين، حيث ظهر للمرة الأولى. وهو مؤلف من 6 أعمدة بدل 8 أو 9. ويطوى مرة واحدة بدل المرتين، كما في الصحف الكبيرة، أو لا يطوى، كما في «التابلويد».
وأنا من المتحمسين جداً للحجم البرليني، وأعتبره مثالياً. وقد تعلمت من رائد الإخراج في الصحافة العربية، الراحل عصمت شنبور، أن الصحافة الألمانية رائدة في فن الإخراج، كما في أصول المهنة في شكل عام. وأعتقد أنها لو كانت تصدر بلغة إنجليزية، لكان لها في عالم المهنة، ما لـ«التايمز» أو «الموند»، أو «الإيكونومست»، التي تقابلها في الأسبوعيات «دير شبيغل».
كل مرة أكتشف في الصحف السعودية كاتباً جديداً، إضافة للمعروفين والمشهودين. وكثير من الجدد غير متفرغين تماماً، قادمون من حقول أكاديمية واقتصادية وغيرها. وميزتهم الأولى البحث والجدية والمنطق واجتناب لعبة الألفاظ الفارغة والإنشائيات المكررة.
وملاحظة حبيّة أرجو أن تؤخذ على ما هي: الكلمات الحادة تجرح من يستخدمها أكثر مما تجرح المعني بالإصابة. في إمكاننا أن نقول كل ما نريد من دون التعثر بالأصول. لا يليق أبداً أن نستخدم أساليب الذين يغضبوننا. فهذا هو الفارق الأساسي.
بعض التعابير غريب على الصحافة السعودية. والاستغناء عنه مكسب. هناك لغة لا يستخدمها سوى المفلسين الذين لا يملكون شيئاً. بلاها. إن تحدي الصحافة السعودية الآن هو أن تعبر، بأوضح ما يكون، عن الرؤية الجديدة. والتحدي الآخر هو التغلب على متاعب الورق ومصاعب الحبر. صحيح أن الصحافة الإلكترونية بديل لا مفر منه، ولكن ذلك يذكرني بالراحل الكبير تقي الدين الصلح عندما رفع منافسه شعار «انتخبوا البديل». فجعل هو شعاره «انتخبوا الأصيل!».