كرم نعمة يكتب:

ترامب في لندن، يا لسعادة الصحافة!

تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في نهاية زيارته الرسمية إلى بريطانيا التي زعم فيها أنه حظي بمعاملة ودودة، هي أخبار كاذبة بامتياز.

لقد كتب ترامب “لم أكن لأحظى بمعاملة أكثر ودا في المملكة المتحدة من جانب العائلة الملكية والشعب” وهذا الكلام يشبه حضور مؤتمر لرجال الإطفاء حيث لا يستطيع أحد ذكر الماء!

وعندما أرغم الصحافيون ترامب على التعليق بشأن عدم الترحيب به من قبل فئات واسعة في المجتمع البريطاني، اعتبر ما يحدث في الشارع من رفض لزيارته، ضمن الأخبار الكاذبة، وقال إنه شاهد آلاف الناس المحتفين به في شوارع لندن “وبعد ذلك سمعت أن هناك احتجاجات، وقلت أين هي الاحتجاجات؟ لا أرى احتجاجات، وعندما قدمت اليوم لم أر احتجاجا، فهي صغيرة للغاية، ويؤسفني أن اضطر إلى القول إن الكثير من هذه التقارير هي من قبيل الأخبار الكاذبة”.

ولأن ترامب مشوش بشكل دائم وفق تعبير رئيسة الكونغرس الأميركي نانسي بيلوسي، فإنه لا يستطيع النظر إلى ما يراه الآخرون عندما يقول إنه شاهد بدلا من ذلك “أناسا يلوحون بالأعلام الأميركية والبريطانية، كانت حالة مزاجية قوية وحبا، حبا كبيرا”. أنا كصحافي كنت يومها بين الناس، فحتى رجال الشرطة البريطانيين كانت ملامحهم الحذرة توحي بتعاطف مع حشود الرافضين لوجود ترامب في لندن، المدينة التي تفتخر بتنوعها الإثني.

سبق لديفيد غيرغن، المستشار السياسي للرؤساء السابقين نيكسون وفورد وريغان وكلينتون، أن فسر ذلك بقوله “الأميركيون مصابون بالدهشة من الأيام الأولى من رئاسة ترامب كحال بقية العالم، الخبر السار لأنصاره هو أنه لم يتغير، هذا هو خبر سيء من وجهة نظر منتقديه، الذين يأملون أن يصبح أكثر عقلانية ويتصرف بصورة تليق برئيس الجمهورية”.

الحقيقة التي لم يجرؤ على تناولها الرئيس الأميركي هي سعادة الصحافة البريطانية بقدومه، فلم يحظ أي رئيس أميركي على مرّ التاريخ مثلما حظي به ترامب، فحتى فضيحة بيل كلينتون الجنسية مع المتدربة مونيكا بولونسكي، لم تحظ باهتمام الصحافة الشعبية البريطانية بقدر الجدل المرافق لترامب نفسه، لذلك كانت الصحافة البريطانية على مدار الأيام الماضية أكثر سعادة، لكنها سعادة لا تمتّ بصلة للمعاملة الودودة التي زعمها ترامب.

من البساطة بمكان أن نكتشف الخبر المزيف الذي غرّد به ترامب عن “المعاملة الودودة” عندما نتأمل تراجعه عن وصف زوجة الأمير هاري، ميغان ماركل الأميركية المولد بأنها شخصية فظة! وقبل وصوله إلى بريطانيا، قال ترامب عندما أبلغته صحيفة صن بانتقادات ميغان له “لم أعلم ذلك. ماذا بوسعي أن أقول؟ لم أكن أعرف أنها فظة”.

وعاد ترامب ليقول إن وسائل الإعلام حرفت كلماته إذ أنه يشعر بحق أنها لطيفة جدا. وقال في مقابلة مع قناة “آي.تي.في” التلفزيونية “قلت: لم أكن أعرف أنها فظة، لم أكن أشير إلى أنها فظة ولكن قلت إنها كانت فظة تجاهي”.

أليس بإمكان أيّ من الذين يمتلكون وعيا تحليليا بسيطا تصنيف هذا التراجع في الكلام ضمن الأخبار المزيفة التي يحاربها ترامب نفسه؟

لم تكن قصة ترامب- ميغان، الوحيدة التي جعلت الصحافة البريطانية سعيدة، بل إنها كانت تترقب بشغف اللقاء الذي يجمعه مع نايجل فاراج، زعيم حزب بريكست الجديد الفائز في انتخابات البرلمان الأوروبي، فالشعبيون قصة صحافية بامتياز هذه الأيام لا يمكن أن تفقد تأثيرها، فكيف إذا التقى ترامب بفاراج؟

ووصف فاراج اللقاء مع الرئيس ترامب بالجيد فهو يؤمن فعلا بالبريكست كما أن الرحلة إلى لندن أعجبته.

تحمل تلك الرسالة من الالتباس ما يكفي بالنسبة للشعبوي الآخر بوريس جونسون المرشح لخلافة تيريزا ماي في رئاسة الحكومة البريطانية، إذ إنه اكتفى بمحاورة على الهاتف لمدة عشرين دقيقة مع ترامب وليس باستقبال في منزل السفير الأميركي في لندن كالذي حظي به فاراج.

وهنا قصتان ستلاحقهما الصحافة البريطانية دون كلل، لأن ما جرى في لقاء فاراج ومكالمة جونسون، ستبقى تفاصيلهما حية لأسابيع في بلد يعيش مأزق بريكست الذي دفع إليه جونسون وفاراج.

هناك قصة صحافية ثالثة أقل أهمية لكنها ستكون حاضرة في الجدل أيضا، وتتعلق بالقوة السلبية التي يمثلها زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين، بالنسبة إلى ترامب، مقابل قوة فاراج وجونسون الإيجابية!

فبعد أن رفض طلب عقد لقاء مباشر مع كوربين، عاد ترامب في نفس المقابلة مع بيرس مورغان بتلفزيون “آي.تي.في” إلى الحالة المشوشة التي تصفه فيها بيلوسي بالتعبير عن اعتقاد مرتبك بالقول “اعتقدت أنه من غير المناسب أن ألتقيه، ولكنني مستعد للقائه. بالتأكيد ليس لدي أي مشكلة معه”.

تلك هي القصة السعيدة بالنسبة لوسائل الإعلام في زيارة ترامب التاريخية إلى بريطانيا، فعندما كان ترامب مرشحا في السباق الرئاسي قال ستيف لانزانو، رئيس مكتب إعلان تلفزيوني يمثل ما يقارب 700 محطة محلية أميركية “لا أعتقد على الإطلاق أننا سنحصل على مرشح آخر مثل هذا، الجميع سيجري دراسات الحالة الخاصة به، وبعد ذلك سنمضي قدما”.

أما اليوم فإن لانزانو سعيد إلى حدّ الإفراط وهو يعيش صحة ما توقعه قبل سنوات، وهذا ما عبر عنه بوضوح أيضا ليز مونفز، الرئيس التنفيذي السابق لشبكة “سي.بي.أس″ بقوله “إن مسار دونالد ترامب للبيت الأبيض قد لا يكون في مصلحة أميركا، لكن من المؤكد أنه أمر رائع لشبكة سي.بي.أس″!

فقد ارتفعت التصنيفات بسبب إقبال المشاهدين على متابعة القنوات لرؤية الدراما السياسية وهي تتبيّن أن “الإيرادات تنهمر علينا، صحيح أنه أمر كريه حين أقول ذلك، لكن السبب في ذلك هو دونالد”.

ألم أقل يا لسعادة الصحافة بزيارة الرئيس الأميركي إلى بريطانيا؟ لأن السعادة تأتي أحيانا من الأمور الكريهة في عصر ترامب!