الحبيب الأسود يكتب:

زلزال استطلاعات الرأي وليل سياسيي تونس الطويل

نتائج آخر استطلاع للرأي التي أعلنت الأربعاء بتونس، أو ما اصطلح على تسميته بالزلزال، كشفت عن مستوى الخطر الذي يتهدد بلدا من المفروض أنه يعيش على وقع ديمقراطية ناشئة، بالغ البعض في التفاؤل بها، رغم أنها تبدو إلى حد الآن ديمقراطية عقيمة، لا تثمر غير المزيد من الفساد تحت شعارات مكافحته، والمزيد من اليأس في صفوف الجماهير التي لا تهتم إلا بمستويات عيشها وبظروفها الحياتية اليومية، إضافة إلى المزيد من الظواهر الطفيلية المستفيدة من المجال العام المفتوح للترويج لنفسها وتحقيق أهدافها اعتمادا على أدوات قد تكون شعبوية وفق توصيف مناهضيها، ولكن الأهم من ذلك أنها متجاوبة مع ثقافة الشعب وميولاته الفطرية، مقابل عزلة الخطاب النخبوي الذي يبدو وكأنه حالة وهمية عاجزة عن فرض صدقيتها لدى العامة.

نتائج آخر استطلاع للرأي في تونس أعطت لحزب لم يتشكل بعد أسبقية الفوز في الانتخابات البرلمانية المقررة للسادس من أكتوبر القادم، ولزعيم هذا الحزب الافتراضي الأسبقية في الفوز في رئاسيات 17 نوفمبر. يليه مرشح ثان لم يعرف الناس عنه إلا مداخلات إعلامية لتفسير مواد القانون الدستوري أو بعض المواقف المحافظة المنسوبة إليه على صفحات التواصل الاجتماعي.

تشير كواليس السياسة التونسية حاليا إلى وجود ثلاثة أطراف على الأقل، تتمنى لو أن بإمكانها تأجيل الانتخابات ولو لبعض الوقت لإعادة ترتيب الأوراق التي بعثرتها استطلاعات الرأي. أقصد هنا رئيس الدولة الباجي قائد السبسي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، وحركة النهضة، وثلاثتهم يواجهون تحديا كبيرا بعد صعود نجم الوجوه الجديدة التي أصبحت تحتل صدارة نوايا التصويت في استطلاعات الرأي المعلنة والخفيّة، أبرزها نبيل القروي صاحب قناة “نسمة” التلفزيونية، الذي يأتي في صدارة المرشحين شعبيا لرئاسة الدولة، بعد أن دخل غمار المنافسة من خلال جمعية خيرية، حققت له انتشارا واسعا وتعاطفا كبيرا، وخاصة في المناطق الريفية المعزولة والمهمشة والأحياء الشعبية الفقيرة، وبين المحرومين وكبار السن، ليتحول فجأة إلى مالئ الدنيا وشاغل الناس ومحور الجلسات المغلقة بين كبار الساسة في البلاد ممن يبحثون دون جدوى عن طريقة للحد من سطوته، ولو بتعديل القانون الانتخابي، وتضمينه فصلا يمنع أصحاب المؤسسات الإعلامية والخيرية من الترشح، أي أن هذا التعديل سيواجه اتهاما واضحا بأنه وُضعَ على القياس، وسيمثل فضيحة يعرف القروي كيف يستغلها كما استغل في أواخر أبريل الماضي حادثة إغلاق قناته بواسطة القوة العامة، وجعل منها قضية رأي عام، قبل أن تعود إلى البث.

وإذا كان القروي قد حصل على 8.23 بالمئة من نوايا التصويت في الرئاسيات، فإن حزبه الذي لم يتشكل بعد، وبالتالي لم يعلن عن تأسيسه، حظي بـ8.29 بالمئة من نوايا الناخبين، دون أن يطلع أحد على أسماء قادته أو لوائح مرشحيه، وهو ما يعني أننا أمام حالة سريالية غير مسبوقة، انبنت فيها النوايا لحكم البلاد على دعاية ساذجة لمساعدات خيرية من خلال جمعية أطلق عليها صاحبها اسم نجله الذي توفي في حادث سير.

هناك كذلك ظاهرة “عيش تونسي” (أو عش تونسيا) والتي يعرّفها مؤسسوها على أنها “جمعية تونسية متكونة من مجموعة توانسة ليس لديهم خلفيات سياسية والممولين الوحيدين للجمعية”، وتديرها ألفة التراس المتزوجة من رجل الأعمال الفرنسي جيلوم رابروغ، والتي كانت تعيش في لندن ثم انتقلت إلى باريس لتعود فجأة إلى تونس بإمكانيات مادية ولوجستية ضخمة، حيث صرفت ملايين الدولارات، لتحقق نجاحا كبيرا في الحصول على مئات الآلاف من الداعمين والنفوذ إلى معطياتهم الشخصية، ولتغطي مساحات مهمة من الفضاء الإعلاني بخطاب يصفه مناهضوه بالشعبوي، غير أنه يجد صدى لدى فئات مهمة من الشعب

هاتان الحالتان غير حزبيتين إلى حد الآن، قامتا بمخاطبة الرأي العام من منطلق العمل الجمعياتي الأهلي، مستفيدتين من الفضاء المفتوح، ومن حالة التيه وعدم التركيز التي ميزت الوضع في البلاد منذ الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير 2011، وانعكست على أداء النخبة السياسية الفاشلة، سواء كانت في مركزية القرار أو في هامشية المعارضة.

على الصعيد الحزبي، يبدو الحزب الدستوري الحر بزعامة عبير موسي حالة استثنائية في أدائه الميداني، وبخطاب سياسي لا يخفي عداءه المعلن للإسلام السياسي ولمنظومة ما سمي بالربيع العربي، ورفضه المطلق التعامل مع كل من وضع أو يضع يده في يد حركة النهضة، إلى جانب تبني خيارات دولة الاستقلال منذ الاستقلال حتى الإطاحة بالنظام السابق قبل أكثر من ثماني سنوات.

هذا الحزب يعتمد على الخزان الانتخابي للحزب الحاكم في عهد بن علي قبل حله في مارس 2011، وهو التجمع الدستوري الديمقراطي، وسلفه الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، وبالأحرى على مئات الآلاف من التجمعيين والدستوريين الذين تعرضوا للاضطهاد النفسي والاجتماعي والسياسي باعتبارهم مثلوا الفئة المهزومة في أدبيات المرحلة، والذين أحسوا مع حزب موسي أنهم خرجوا من القمقم وعادوا إلى الحياة، دون أن يتنازلوا عن ثوابتهم السابقة وعلى رأسها الدفاع عن دولة بورقيبة والعداء للإسلاميين.

تقدمُ الحزب الدستوري الحر دفع بأحزاب أخرى إلى التحالف في ما بينها في محاولة لأخذ نصيبها من أصوات التجمعيين والدستوريين، مثلما حدث بين حزب تحيا تونس وحزب المبادرة القريبين من النهضة، والمدافعين عن فكرة تقاسم السلطة معها، وكذلك التحالف بين شق الحمامات من حزب نداء تونس بزعامة سلمى اللومي، وحزب مشروع تونس بزعامة محسن مرزوق، والذي قد يشمل حزب البديل بزعامة المهدي جمعة، في اتجاه طموح مشترك بأن تجتمع هذه الأحزاب مع تحيا تونس ضمن ما سمي بمشروع النداء الكبير، لكن يبقى طموحا صعب المنال نظرا للصراع المسكوت عنه بين القيادات والممولين على لوائح الترشح، وتقاسم المصالح والمواقع والحسابات.

ليل سياسيي تونس بات طويلا في صائفة هذا العام، وخاصة ممن كانوا يتقاسمون السلطة والمكاسب على الورق قبل أن تصدمهم استطلاعات الرأي، حيث لم يعد هناك من يزعم أنه يضمن النتائج، ولا أحد يدعي أنه قادر على حسم هوية الرئيس القادم إن لم يكن نبيل القروي، ولا أحد بإمكانه التكهن بتركيبة البرلمان القادم إن لم يكن ذلك الحزب الذي لم يتشكل بعد، وحتى حركة النهضة التي كانت تقدم نفسها على أنها واثقة من الفوز بالأسبقية وبالتأثير في اختيار رئيس الدولة، سيكون عليها أن تنتبه إلى وضعها أمام التدفق الاستثنائي للمسجلين الجدد في لوائح الناخبين، مقابل تراجع خزانها من المساندين غير المؤدلجين، لتحافظ فقط على منخرطيها ومناصريها من المرتبطين بعقيدتها الفكرية والسياسية.

حركة النهضة الحاصلة على نسبة 8.16 بالمئة من نوايا التصويت، تعود إلى حجمها المفروض أن تكون عليه، والذي لا يتجاوز 20 بالمئة من المشهد السياسي و5 بالمئة من النسيج الاجتماعي العام، لكن ما يزعجها هو عجز من كانت تستعد للتحالف معهم بعد الانتخابات لاستمرارية تغلغلها في الحكم، وخاصة حزب تحيا تونس الذي كان يُتوقع أن يحتل ما كان عليه نداء تونس من موقع المتصدر لانتخابات 2014.

يبقى الرئيس الباجي قائد السبسي الذي يشعر أنه سيغادر قصر قرطاج دون ضمان تأمين البلاد بوضعها من جديد على سكة المشروع البورقيبي الذي يؤمن به، ودون أية حظوظ لتكرار سيناريو 2014 الذي كان فيه حزبه نداء تونس على رأس القوى المنتصرة بقوة الصندوق، حيث يشعر اليوم أنه لم يحقق شيئا يذكر خلال فترة رئاسته (رغم أن انتخابات 2014 أعطته وحزبه مقاليد الحكم في قرطاج والقصبة وباردو) وإنما خسر رصيدا مهما من شعبيته وعجز عن تحقيق ولو البعض من وعوده لناخبيه، وخاصة للمرأة التونسية التي حاول أن يسترضيها بمشروع لم ير النور وهو قانون المساواة في الميراث، كما سيذكر له التاريخ أنه فشل في الدفع نحو كشف الحقيقة في ما يتعلق بالاغتيالات السياسية، مقابل “نجاحه” في منح الإسلاميين مجالا واسعا للتمكن والتغلغل في مفاصل الدولة.

تونس أمام خريف مفتوح على كل الاحتمالات، إلى درجة أن هناك من يحلم بتأجيل الانتخابات.