سمير عطا الله يكتب:
بريد الليل
ثارت ضجة كبرى حول جائزة «البوكر» العربية التي أُعطيت هذا العام للروائية هدى بركات. موضوع الضجة والصخب الذي استمرّ لعدّة أسابيع، كان حول تسريب نبأ الفوز قبل إعلانه الرسمي. والجزء الآخر من الضجيج، كان على اعتراض الروائية العراقية إنعام كجه جي على منح الجائزة لمنافستها، لقناعة لديها بأنها الأكثر استحقاقاً.
رحت أنتظر لأيام كثيرة أن أقرأ نقداً حول الرواية الفائزة «بريد الليل» أو عرضاً موجزاً لها. لكن النقاد ظلوا مأخوذين بالجدل حول ما أحيط بالحدث، متجاهلين تماماً موضوعه الأساسي، أي الرواية والروائية وعملها الجديد. وأنا من قرّاء بركات وكجه جي معاً ولست مؤهّلاً لإصدار حكم نقدي مجرّد. كلتاهما تجيئان من تراث فكري مختلف وموقف إنساني واحد. الأولى تغرف من وقائع وآلام المنفى الذي نقل العرب شكواهم إليه. والثانية تنهل من غنائيات العراق وأحزانه ومواويله. الأولى بأسلوب حارق وحزين، والثانية بأسلوب غنائي وحزين أيضاً. وكلتاهما تعيشان في الغربة. أو على وجه الضبط، في غربة واحدة هي باريس. ولست أعرف كيف يمكن للإنسان أن يكون غريباً في مدينة مثل باريس وبلد مثل فرنسا ولغة مثل الفرنسية. ولكن الاستحالة الكبرى في هذه الحياة، أن ينفصل الإنسان عن الصرّة التي يولد فيها ويصرّ على إعطاء صفة الوطن للوطن الأم وحده. وقد عبّر عن ذلك في مطالعات استثنائية، الكاتب أمين معلوف الذي تجمعه بالروائيتين غربة باريس وصراع الهويات.
«بريد الليل» سرد في صيغة رسائل، لا يختلف إطلاقاً عن أعمال هدى بركات السابقة، وقد قلت إن أسلوبها حارق، لأنها تتوقّف كثيراً عند وقائع الحياة وضعف البشر. تتجنّب الإثارات المكرّرة التي نحت إليها بعض الروائيات الحديثات، لكنها تصوغ الرواية دوماً على شكل اعتراف ساخر من الذات ومن الآخرين أيضاً. فأبطالها دائماً خاسرون، ولكن من دون أن يثيروا أي نوع من التعاطف أو الحنان. إنهم متروكون للعَوم في عالم شديد القسوة، متسارع، ومتدافع نحو الهرب المعنوي من حالاته المادية والحسّية.
بعكس هدى بركات، تطلب إنعام كجه جي لأبطالها الترفّق والمحبة. إنهم خاسرون أيضاً لكنهم لا يريدون المواجهة. وبدل العَوم فهم يبحرون في حياتهم، يحملهم تيار مختلط من القسوة والرأفة. وإنني أخلص من هذه المقارنة إلى حالة شخصية كنت فيها قبل توزيع جوائز «البوكر» العربية وهي عدم القدرة على المفاضلة بين بركات وكجه جي. وأعرف أن هذا الموقف سوف يغضب السيدتين دون أن يرضي أياً منهما. لكن لا حلّ آخر أمامي.