د. سالم حميد يكتب:

سباق من أجل النفوذ أم صراع حضاري؟

رغم المشترك الديني التقليدي بين القوميات العربية والفارسية والتركية في الشرق الأوسط، إلا أن المنشأ العربي للإسلام الذي غزا الحضارتين الفارسية والرومية، لا يزال يستفز الوجدان التاريخي للحضارتين البائدتين، وهذا الشعور يبرز إلى السطح في تعبيرات سياسية يمكن ملاحظتها بسهولة، وخاصة مع تزايد اتجاه العالم نحو عصر الشعبوية والتعبيرات القومية المتطرفة، ما أدى إلى إحياء النزعات المحلية في مواجهة الثقافات المهيمنة التي تغطي على ما سبقها من خصوصيات.

ومن الطبيعي أن الانصهار في الثقافة الإسلامية لم ينقلا القوميات البارزة المحيطة بالعرب إلى مرحلة المحو النهائي للشعور الدفين بالشخصية الحضارية السابقة، وتحديدا لدى حضارتي الفرس والروم. ما يثبت حقيقة مفادها أن الخصوصيات الحضارية الأقدم والأعرق من التحولات الدينية الأحدث زمنيا تبقى ذات تأثير أقوى يتغلب على المشترك الروحي الجديد نسبيا. بمعنى أن مرور ما يقرب من 1500 عام على ظهور الإسلام لا يكفي لجعل هذه الفترة الزمنية قادرة على تغييب المشاعر القومية العميقة لدى الإيرانيين والأتراك في الزمن الحاضر.

صحيح أن التعبير عن الاختلاف الثقافي والسياسي بين القوميات في إطار الإسلام يظهر بأشكال معاصرة، لكن الحديث عن سباق من أجل النفوذ بين القوميات الثلاث الكبرى في الشرق الأوسط لا يخلو من خلفيات تاريخية، أصبح الدين فيها محايدا أو أقل فاعلية مما مضى. وهذا دليل على أن السياسة لا دين لها، مهما رفع البعض شعارات تسييس الدين أو رايات الخلافة. لأن الصراع يبقى من حيث جوهره صراع نفوذ، وتعبيرا عن العداء التاريخي الكامن بين العرب من جهة، وبين من كانت المدونات العربية التراثية تطلق عليهم في الماضي صفة العجم، وهم الفرس والروم؛ إيران وتركيا في الوقت الراهن.

من ناحية أخرى لم يتبق لدى الحضارتين سوى مشاعر العداء الكامن تجاه العرب، وخاصة أن الإيرانيين أعادوا صياغة المشاعر القومية بالمزج بين الروح الفارسية والتدين على طريقة الملالي، مع تعزيز هذا التوجه بشكل أيديولوجي حاد منذ ثورة الخميني وحتى اليوم. بينما نقل أتاتورك الأتراك إلى مرحلة علمانية ملتبسة لم تمنع من الحنين إلى المرحلة العثمانية، بدليل ركوب الرئيس رجب طيب أردوغان ومجموعته على هذه الموجة القديمة. ومن خلال تلقيح الفرس لمشاعر الكراهية ضد العرب بأيديولوجيا طائفية تزعم احتكار المقاومة على وقع الشعور بمظلومية وجدوا فيها ضالتهم، وأصبحوا يهاجمون العرب ويتطاولون عليهم باسم الدين نفسه الذي طمس حضارة بلاد فارس!

يزايد الأتراك على العرب وبقية العالم الإسلامي بالفترة العثمانية التي كانت مرحلة فشل خلالها الأتراك في التخلي عن تخلفهم، بقدر ما حاولوا نشره على كل المناطق التي احتلوها باسم الخلافة العثمانية. ويمكن توصيف ملامح الصراع الحالي بين القوميات الثلاث الرئيسية في الشرق الأوسط، باعتباره يستهدف بسط النفوذ على المستويين السياسي والعسكري، ولكنه صراع يختزن خلفية تاريخية لا يمكن إنكارها.

هذا المحور القائم على الصدام والصراع، يذكرنا بمفهوم صراع الحضارات، الذي وضعه الأميركي صامويل هنتنغتون في أطروحته الشهيرة المنشورة عام 1993 بعنوان “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”. وعندما نتأمل مسار الصدام المستمر الذي تحول إلى أيديولوجيا ثابتة للنظام الإيراني، لا يمكن تجاهل البديهيات والحقائق التي تؤكدها العلوم السياسية، وفي مقدمتها حقيقة أن التاريخ يلقي بظلاله على المستقبل وحروبه ومصالحاته.

يجب أن ندرس تاريخنا المحلي وتاريخ الأمم التي حولنا، لأن العداوات التاريخية تظل فاعلة بشكل خطير ومؤثر، مهما ظهرت القوى المجاورة بأقنعة دينية مشتركة، لأن كل التحركات السياسية في الزمن الراهن غير منفصلة عن جذور الماضي وحسابات الصراع الحضاري. لكن الحضارات القديمة قد تنتكس، وتصبح حروبها ومواقفها تجاه الآخرين موازية لتخلفها وهمجيتها المستحدثة. فالحضارة الفارسية لو أنها ظلت محافظة على ما اكتسبته من ثمار مدنية وتطورات إدارية وفنية وأدبية، لكانت بالتأكيد أفضل بمراحل لا تقاس بالوضع الحالي الأكثر بؤسا، الذي تحول معه الإيرانيون إلى آلات لإنتاج الشعارات الجوفاء المعادية حتى لمصلحة الإيرانيين أنفسهم ولاقتصادهم ومستقبل أبنائهم.

ويبدو أن القوة الروحية التي نقلت العرب إلى مرحلة غزو الحضارات المجاورة لهم، كانت ملائمة أكثر لحاجة العرب إلى التقارب والاتحاد تحت مظلة عقيدة صلبة، أدت إلى زرع الحماس لديهم، ومنحتهم الطاقة الكافية لتدمير الفرس والروم، لكن البديل بالنسبة للحضارتين المنهارتين لم يكن دافعا لولادة حضارة جديدة ترضي غرور حضارتهم السابقة الأكثر تمدنًا.

ومن حق المؤرخ اليوم أن يتخيل وجود سيناريو يفترض أن العرب لم يخططوا لغزو الفرس والروم. وفي المقابل نتساءل هل كان الوضع سيختلف بين الحضارات الثلاث إذا لم يكن العداء التاريخي فاعلا كما يحدث الآن؟

تاريخيّا كانت معركة القادسية بين المسلمين والفرس بداية هزيمة الإمبراطورية الفارسية. كما أسست تلك المعركة ونتيجتها لبداية الحقد الفارسي ضد العرب. وبالتالي عندما تتحالف إيران مع قطر فإنها تستغلها لتنفيذ أجندة لا تخلو من كراهية للعرب.

بينما مثلت الحروب الصليبية أحد مظاهر التعبير عن الانتقام المتأخر لانهزام الروم أمام المسلمين واندثار دولتهم. وعندما تتدخل تركيا حاليا في الشأن الليبي والسوري وفي ساحات عربية أخرى، فلا يمكن فصل مثل هذه التدخلات عن هواجس حضارية تاريخية قديمة لها مظاهر حديثة. ولا شك أن للحضارات ذاكرة تدفعها إلى عدم تناسي الماضي والأعداء الذين كانوا سببا في القضاء عليها. ويبدو أن هذه المسألة تشكل أحد أسباب اضطرار العرب إلى دفع الثمن، في مقابل الغزوات التي كانت مدفوعة بروح يمتزج فيها الجانب العقائدي الديني بالجانب العسكري الديني التوسعي الذي تلجأ إليه كل الحضارات، ثم تدفع ثمنه لاحقا.