رشيد الخيُّون يكتب:
جنازة السِّبسي.. وجنائز العراق
كان مشهد تشييع جنازة الرَّئيس الباجي القايد السِّبسي (1926-2019) تثنية على انتخابه رئيساً. قاد سفينة بلاده إلى برّ الأمان وسط أمواج كادت تغرقها في بحر مِن الدِّم، مثلما حصل لبلدان لم تجد ربابنة نزهاء لقيادتها. حفظ لتونس تاريخها المدني، فلم يهمه أن تغضب عليه المؤسسة الدِّينية والإسلام السِّياسي، فهو على قناعة أن الدِّين دين والسِّياسة سياسة.
لم يقبل بغزل الإسلاميين ونفاقهم في إصلاح المجتمع، وفي المقدمة تأتي قضية النِّساء. تقدم فيها وما تراجع عمَّا تقررَ في نهاية الخمسينيات، وعندما أعلن المساواة في الإرث انطلق مِن حرص على مجاراة الزَّمن.
ظل السّبسي مخلصاً للحبيب بورقيبة (عزل 1987)، فلما سُئل عنه قال: «أنا تلميذ مِن تلامذته». كان الأستاذ يؤمن بالواقع، فدعوته بأريحا الفلسطينية (1965)، بخصوص القبول بالتفاوض وفق قرار التقسيم (1947) صارت اليوم أُمنيةً، بينما حينها صار هدفاً للتظاهرات العاطفية. كان بورقيبة يفيض شجاعة وإنسانية عندما منح اسمه لمَن يسمون ظلماً باللقطاء، فعُرفوا بـ«أطفال بورقيبة»، تعلموا وخدموا بلادهم في الوظائف المدنية والعسكرية.
جاء السّبسي إلى رئاسة الجمهورية بعد التَّدرج في مدرسة الحكم، إلى جانب بورقيبة، وتأثراً بما حمله ماضي تونس مِن آفاق التّنوير، على يد مصلحيها: خيرالدين التونسي (ت1890)، والطَّاهر الحداد (ت1935) وعبدالعزيز الثَّعالبي (ت1944) وغيرهم. نُصب السبسي: وزيراً للداخلية والدفاع والخارجية ورئيس مجلس نواب ورئيس وزراء. تلك تجربته العملية قبل رئاسة الجمهورية، وقد صدمت وفاته التُّونسيين، لأنه مازال الأصلح لإدارة البلاد.
كنتُ سادراً وأنا أتابع تشييع جنازة الرئيس التونسي، في مهرجان الفقدان الشعبي لهذا الحكيم. مرت في خاطري جنائز وقبور ملوك ورؤساء العرّاق، بين مسحوب في الطُّرقات، ومدفون في الماء ومعدوم يسمع هتافات ضده، وبدل التَّشييع اللائق يظلون يُشتمون حتى انقلاب قادم! نعم لاقت جنازة فيصل الأول (1933)، التَّشييع والدفن في مقبرة ملكية، ومازال التكهن بموته جارياً، بفعل فاعل أم حتف أنفه! كذلك وجدت جنازة ولده غازي (ت1939) مَن يشيعها، وسبب وفاته ظل يثير الجدل، عمود الكهرباء أم العبث بفرامل سيارته؟! أما فيصل الحفيد فقد نام تلك الليلة بأحلام السفر إلى تركيا واللقاء بخطيبته، لكنه استيقظ على أزيز الرَّصاص، الذي مزق صدره وصدور أسرته، واُعتبر عدم العبث بجثمانه مكرمة مِن الضباط الثُّوار!
وهل أي عراقي ممِن تسلم الحكم اليوم أكثر حرصاً على العراق مِن فيصل ومِن المس بيل (ت1927) نفسها، هذا إذا تكلمنا بلا ادعاءات؟!
بينما خيرالدِّين التونسي، الوزير الأكبر، جاء به النخاسون من القوقاز، وصار مَملوكاً لباي تونس (حاكمها)، فذاب بتونس، وقدم فكره النَّير لها، وإن ذُكر فلا يُذكر غير أنه تونسي أصالة. أما فيصل ومَن خدم العراق مثل نوري السعيد (قُتل 1958) حُذفت أسماؤهم مِن سجلات نفوس العراق، ولما طلب أحفاد السعيد جوازات عراقية، قيل لهم: لا وجود لكم (لقاء تلفزيوني مع حفيدة السعيد)!
واجه عبدالكريم قاسم (قُتل1963) زخة رصاص أطلقها عليه متهور قومي إسلامي، فهو القاضي والمنفذ، وما زال قبره مجهولاً، في ماء دجلة أو في اليابسة. كان نعش عبدالسَّلام عارف (قُتل1966)، الذي شُيع وبكاه المذيع، خالياً مِن جثمان، فلم يبق مِن الهيلكوبتر غير الحديد ورماد الأجساد. صار له ضريحاً تزوره الوفود خلال حكم أخيه عبدالرَّحمن عارف (ت2007)، ثم أُهمل.
مات عبدالرحمن بالأردن، وكان النزاع بين الحكومة القائمة وغير الراضين بها، بعدها سألت الشيخ حارث الضَّاري (ت2015)، الذي صلى على جثمانه: «رأيت وزير داخلية العراق يُصلي صلاة الجنازة خلفك، فهل صالحتكم جنازة الرئيس عارف»؟ قال: «كان بلا إعداد واتفاق ولم أره، إنما قيل لي».
حتى الآن هناك اضطراب حول مكان قبر صدام حسين (اعدم2006)، الذي أعدم بطريقة أثارت التعاطف معه، حتى من بعض أعدائه، ثم قام رئيس الوزراء باستعراض تافه بالانتصار، أن يؤتى بالجثمان إلى بابه بالمنطقة الخضراء، في مناسبة عرس ولده، لتأكيد أنه رئيس وزراء واقعاً لا حلماً، فالرجل لم يخطر على باله يوماً أن يكون بهذه النِّعمة! ومِن يومها عاطفة الحقد طغت على الأمل والبناء. فعندما دعاه دعاة حزبه بـ«مختار العصر»، علت الطَّائفية، وليس أخبث مِن الطائفيين.
كنا نعتقد عند وفاة الرئيس جلال طالباني (2017) أن يكون له تشييع عراقي، لكن الخلاف الطائفي (القومي)، ضيع الرئيس وجنازته، فلم يُلف بعلم العراق، مثلما لُف السَّبسي، وشيع بهذا البهاء الشّعبي التَّونسي، بينما رُمس طالباني وسط دهشتنا!
أغبط الشَّعب التّونسي على ما أوصلهم الباجي القايد السبسي بمؤسس نظامهم المدني الحبيب بورقية، وما شُيد مِن تنوير قبلهما، الذي قال الجواهري (ت1997) فيه: «وآوتْ من الأديانِ شتَّى وأطْلَعَتْ/مِن الخطراتِ النيّراتِ بها شُهْبا/وما سَمَلَتْ عيناً وما قَطَعَتْ يداً/ولا حجزتْ رأياً ولا أحْرَقَتْ كتباً» (الدِّيوان، قصيدة تونس 1943).