كرم نعمة يكتب:
التأمين الإعلامي ضد المواقف المشينة
إنها لعبة مثيرة وذكية تمارسها شركات التأمين مع وسائل الإعلام لكسب المزيد من الأموال، تحت فكرة “أموال إبليس في جيب الشيطان”! ذلك المال الذي تحصل عليه شركات التأمين من نجوم المجتمع والفن والسياسة والأثرياء لا يصل منه شيء لوسائل الإعلام، وهو أمر لا يدعو إلى الأسف، لأن اللعبة المزدهرة بين كبرى شركات التأمين اليوم اسمها “ازدهار التأمين ضد العار”.
قبل سنوات أمنت الممثلة والمغنية جينيفير لوبيز على مؤخرتها بـ27 مليون دولار. بينما تتحدث أخبار الصحف الشعبية الأميركية أن المغنية ماريا كاري، قد أمنت على ساقيها بمبلغ مليار دولار! وبين هذه الأرقام دفعت الممثلة المحبوبة جوليا روبرتس، تأمينا على ابتسامتها بقيمة ثلاثين مليون دولار.
كانت أخبارا مسلية آنذاك تداولتها وسائل الإعلام، لكن الصحف اليوم شريكة في نوع مزدهر من التأمين متعلق بالسلوكيات المشينة والتصرفات التي تصل إلى درجة العار التي يرتكبها المشاهير والأثرياء.
شركات التأمين لديها جيش من المتابعين لما ينشر في وسائل الإعلام عن المشاهير بحثا عن أي علامات تحذيرية بأن أحدهم قد يتجه إلى المتاعب، الأمر الذي جمع لديها قاعدة بيانات مما تنشره الصحافة وفقا لقائمة من عوامل الخطر التي تحدد مبلغ التأمين، فكلما ارتفع مؤشر الخطر كلما زاد مبلغ التأمين.
كذلك يتساءل ماثيو مور مراسل شؤون الإعلام في صحيفة التايمز البريطانية: ممثلة ذات وجه بريء يُكتشف إدمانها للهيروين أو ممثل محبوب تسند له حملة دعاية لمسحوق غسيل ثم نكتشف أن سمعته لم تكن بتلك النظافة، ما العمل حين ذاك؟
يبدو أن الإجابة على هذه الأسئلة أصبحت: اتصل بشركة التأمين.
كان بودي أن يضيف ماثيو مور إلى تساؤلاته، سياسي يمارس اللصوصية فيما يصرح عن الأمانة والثقة في خطبه الرسمية، رجل دين غاطس في الرذيلة فيما هو يقود حشدا من المصلين ويدعو إلى الأخلاق الحميدة. لنبحث بعدها عن أي شركة تأمين يمكن أن تقبل بهؤلاء.
لقد تزايد عدد النجوم الذين تسلط عليهم الأضواء في فضائح جنسية ومخدرات أو عنصرية، مما أدى إلى ازدهار التأمين ضد الفضائح، مع سعي الاستوديوهات لحماية نفسها من الخسائر المادية المترتبة على الفضائح التي يتعرض لها النجوم.
ومع تزايد عدد السياسيين ورجال الدين الذين يرتكبون أشنع من تلك السلوكيات المشينة وأضرارها التي تنعكس على مستقبل وتاريخ البلدان، لا يبدو التركيز عليهم بنفس القدر الذي اهتمت به الصحافة مثلا عندما واجه الممثل كيفين سبيسي اتهامات باعتداءات جنسية.
فهل يحتاج السياسيون إلى التأمين على مواقفهم، عندما تكتشف الشعوب أن زعماءها ليسوا سوى أناس أنانيين يفتقرون إلى الوطنية، دون أن توجد شركات تأمين لهذا النوع من السقوط المريع، مَن يحاسب مَن بعدها؟
أرى أن الصحافة هي شركة التأمين الكبرى التي تدفع لها الشعوب بما تملك من مدخرات الثقة، من أجل هدف وطني يتلخص في منع التغول السياسي والفساد في المال العام.
الصحافة شركة تأمين وطنية تعمل بخيار خدمة المنفعة العامة، مع أن الصحافيين أنفسهم غالبا ما يختلفون على طريقة قياس أو تقدير الصالح العام.
في الماضي غير البعيد، كانت وسائل الإعلام موجودة للدفاع عن جمهورها، كما بيّنت بيت هاميل في كتابها “الأخبار فعل” ومع ذلك لم يتغير التعريف الكلاسيكي للصحافة في العصر الرقمي وبقي كما هو، لكن تأثيرها ضعف ولم تصبح مصدرا دائما للجمهور. فيما لا يغيب سؤال “على من تدافع الصحافة اليوم؟” لأنها في حيرة من أمر وجودها ومستقبلها.
عندما يُنظر إلى الصحافيين بأنهم شكل آخر للعدالة، فلأن الصحافة في حقيقتها تحاول أن تجعل العالم مكانا أفضل، وليست مجرد وصف للعالم، بل يبدو العالم فقيرا جدا من دونها! منذ أن قال الروائي فيكتور هيغو إن مبدأ حرية الصحافة لا يقل أهمية عن مبدأ الاقتراع العام، كلاهما سراج للحكومة، وتقويض أحدهما تقويض للآخر. بيد أن الصحافة تواجه اليوم تهديدا وجوديا في إعادة ضبط مكانتها في العالم بوصفها المدافع عن الناس. بينما يتصاعد الجدل المتشائم بشأن الإعلام والسياسة والديمقراطية، يوجد تردد أكثر من أيّ وقت مضى بشأن تعريف الصحافة، ولماذا هي مهمة.
هناك معارك خطأ أرغمت الصحافة على دخولها في العصر الرقمي. وهذا يعني تهميش معركة الصحافة الحقيقية مع نفسها وإعادة ابتكار أدائها وتطوير أدواتها للوصول إلى الحقيقة التي لم تعد متاحة للجمهور. وهذا ما يصفه جيمس بال مؤلف كتاب “ما بعد الحقيقة: كيف غزا الهراء العالم” بالخطر الذي شتت وسائل الإعلام عندما اعتبرت معركتها مع جيل الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي.
على الصحافة الاستفادة من دروس تطور عالم الأعمال وتقديم نماذج مختلفة، من دون أن تفقد قيمها أو حريتها، لكن إذا أدارت وسائل الإعلام ظهرها للمجتمع من أجل أنانية تجارية أو سياسية، والاكتفاء بفكرة ليس ثمة ما يمكن أن نتعلمه ونعمله، فإنها فقط لن تكون شركة التأمين المخلصة للناس لأن لا أحد يضع مدخرات الثقة فيها.
وكي لا تتحول الصحافة إلى مهنة بالية في نظر الناس، يجب أن تصنع أفكارها المتجددة وتتخلص من التكرار، الصحافة كلمة متفجرة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهي غير مقبولة على الأغلب من جيل الهواتف الذكية، ومن جيل آخر كان قد أحب قراءة الصحيفة، لكنها تسبب له الخيبة كلما عاد إلى قراءتها!