رشيد الخيُّون يكتب:
11 سبتمبر.. بين الجد واللعب
مرَّت، في الأربعاء الماضي، الذكرى الثامنة عشر على ضربات نيويورك، شاهد العالم لحظتها رعباً خرافياً، كأنه انفجار كوني، أجساد تتطاير عبر النَّوافذ، مِن ارتفاع نصف كيلومتر، ولا فرصة نجاة داخل المبنيين الشَّاهقين، بعد اقتحامهما بالطَّائرات، فلهوله ما زال حدث صباح الثَّلاثاء (11/9) ماثلاً في الأذهان، بين مصدقٍ ومكذبٍ.
أخذ الجدل وقتاً، قبل تبني «القاعدة» للكارثة، فالذي يعتقد أن أميركا قوة لا تُغلب، اعتبر الحدث جرى بعِلمها، أي استساغت «اللُّعبةَ»، على أن الضَّرر أقل مما سيُجنى منها. اتفق مع هذا الرأي الأعداء، على أن العملية مخابراتية، كي تكون حجَّة لدى الأميركان في الحروب، مثل التي حدثت بأفغانستان والعراق، وما تخططه لشرقٍ أوسط جديد. سمعت رأياً غريباً آخر، ونحن نشاهد التّراجيديا عبر الشَّاشات: أن ما حصل نفذه يساريون لإسقاط هيبة القوة الأميركية!
مع وجود رأي أشار، في السَّاعات الأولى، إلى تنظيم «القاعدة» في العملية، لكن آخرين تسألوا: مِن أين للقاعدة القدرات الهائلة كي تقصف نيويورك والبنتاغون، ومِن داخل أميركا؟! مع عدم إغفال مَن ظنَوا ارتباط «القاعدة» بدوائر المخابرات الأميركية. هذا ما قرأناه حينها في الصُّحف والنَّشرات العربية بالذات، وما نسمعه في نقاشات عدد مِن الفضائيات المحدودة آنذاك، وقبل تسهيلات فيسبوك (2004)، وتويتر (2006).
ليست هناك مسؤولية على التَّكهن، ولا على اختلاق المعلومة، لكن بعدما تبين الأمر ظهر أن ضربات نيويورك قد رتبت، أو فُكر بها، على أرض أفغانستان، يوم كانت تحت سلطة «طالبان»، مع ما لأميركا مِن علاقة بالتَّنظيمات الدِّينية هناك، التي أفرزت تنظيم «القاعدة»، بل حتى جماعة طالبان نفسها، لم تكن بمعزل عن تلك الصِّلات؟! فالسُّؤال أثير حينها: بأي قُدرات طوى طُلاب المدارس الدِّينية جبال ووديان أفغانستان حتى كابول، ويحكمون بأدوات ما قبل التَّاريخ، فتعليم النساء حرام والتَّماثيل المنحوتة بجبال «باميان»، التي كانت تدر على أفغانستان مورداً، عدت أصناماً وهُدمت، إلى منع الأطفال مِن اللَّعب بالطَّائرات الورقية (الحناشي، العاصفة والعِمامة)، وأن تصبح جبال أفغانستان مكاناً لتدريب «القاعدة».
غير أن الأخطر ما ظهر بعد 11 سبتمبر، وكأن الذين تحدثوا عن الافتعال الأميركي للحدث كذريعة لما حصل بعدها، قد صدقت روايتهم، مع أن الأمرَ بعيد، فلا يُصدق أن أميركا بحاجة إلى ذريعة تكلفها الخسارة المادية والمعنوية، فهي لم تحتج إلى ذريعة عندما اجتاحت عدة دول، أو أسقطت حكومة شيلي المنتخبة، والمجيء بحكومة عسكرية دكتاتورية في يوم نيويورك نفسه (11 سبتمبر 1973)، ولم تحتج إلى اختلاق عذر للحرب على العراق أكثر مِن تلفيق دوائر مخابراتها مع معارضين عراقيين لملف أسلحة الدَّمار الشَّامل! وهل كانت أميركا بحاجة لحدث كي تحرر أفغانستان مِن «طالبان» و«القاعدة»، بحجم ضربات نيويورك ووزارة دفاعها؟! بينما سبق لـ«القاعدة» أن خططت مِن أفغانستان، ونفذت تفجيرات خطيرة ضد المصالح الأميركية بأكثر مِن بلد.
أتى غزو العراق، وهو الأخطر، على تدمير البلاد عن بكرة أبيها، ودفعت أميركا بهذا العمل القوى الدينية، ذات الدَّعم الإيراني، في الماضي والحاضر إلى السلطة، لتحصد إيران ثمار ما زرعته مِن تأسيس المنظمات، وتجنيد مَن أطلقت عليهم بـ«التَّوابين»، لترفع الميليشيات التي نفذتها إلى العِراق لافتات تقول: «الموت لأميركا»، ووصف رئيسها بـ"المجرم"، مع أنَّ رافعي اللافتات ووجود مخازن أسلحتهم ما كان يتحقق مِن غير غزو "الشيطان الأكبر"، وكأن ما حصل اتفاق بين الأميركان والإيرانيين. حصل الغزو بعد أن رفضت الدَّوائر الأميركية اقتراحات دول متضررة مِن وجود نظام «البعث» العراقي، وجماعات مِن المعارضة العراقية، بأن لا يكون التغيير بغزو عسكري، لكنه حصل، وبعد سنوات يتخلى الأميركان عن مسؤوليتهم، ويُسلم العراق لأمراء الحروب، ويظهر التَّنمر الطَّائفي.
جاء غزو العراق أحد نتائج 11 سبتمبر المباشرة، وكان بعض مَن عارضوا النِّظام السَّابق يثقون بالأسطورة الأميركية، بعد أن مالت إيران إلى التَّطبيع الكامل معه. حينها تحدثوا عن نقل تجربة الأميركان ببناء اليابان إلى العراق، لكن ما ظهر أنهم حققوا الأسطورة بالهدم، خلال مسافة السير مِن أم قصر إلى بغداد. فهل بالفعل كانت المرجعية الدَّينية قادرة أن تفرض على الأميركان شروطها، في كتابة دستور، وصار مشكلة المشاكل، وإجراء انتخابات عاجلة؟! لذا لم يتمكن الأميركان مِن تنفيذ خطة البناء على طريقتهم اليابانية؟!
غير أنَّ المرجعية ليست بقوة صاحب «فتوى التّنباك» (1891) محمد حسن الشّيرازي (ت1898)، التي أنهت الاحتكار البريطاني للتبغ الإيراني بعشر كلمات. كانت مبالغة بثها الإسلاميون، يوم كانت المرجعية تسترشد بآرائهم، التي تفرض على الأميركان خلاف خطتهم لإعمار العراق؟! وبدل الإعمار صار العِراق مصيدةً للجماعات الإرهابية، وإلا ما العذر بفتح بوابات الحدود؟!
ترى الإنسان يحار بما حصل، فما زالت نتائج 11 سبتمبر كارثية، بين الجدِّ واللَّعب، فعلى رأي «كانت جدّاً وحوَّلتها أميركا إلى لُعبةٍ»، وسيزيد اللَّعب إذا اتفق الولي الفقيه والرَّئيس الأميركي، بلا اعتبار لانهيار العراق تحت أقدام الاثنين.
هذا، ولا يحضر طباق «الجدِّ واللُّعب» بلا ذِكر حبيب بن أوس أبي تمام (توفي 231هـ): «السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ/في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ». أما الشَّاهد مِن القصيدة: «أتتهُمُ الكُربة السَّوداءُ سادرةً/منها وكان اسمها فرَّاجة الكُربِ» (الدِّيوان، شرح التَّبريزي)، فالذين اعتبروا 11 سبتمبر «فرَّاجة الكُربِ» ليسوا قليلين، وما زالوا يسعدون بها، فلولاها ما كانت تفتح أبواب القصور والثَّروة!