كريم محمد يكتب:
كيف نظر الإسلام السياسي إلى مفهوم الأمة؟
مثّل مفهوم الأمة ركيزة أساسية في الخطاب الإسلاموي، فيما يتعلّق بالرافعة السياسية التي قدّم الإسلام السياسي من خلالها خطابه ومنطلقاته الاجتماعية والسياسية للعموم، وكحركة سياسية-اجتماعية مرتكزة إلى مفهوم الدين، فقد استوحى الإسلام السياسي مفهوم الأمة من التأكيد القرآني على الأمة، رغم التباين الاستعمالي الذي تفرضه شروط تاريخية، والذي أُدخل به مفهوم الأمة في المعجم الإسلاموي.
رغم أنّ التنظير العقدي، تراثياً، كان معنياً بالأساس بفكرة "الجماعة"/ الفرقة (الناجية)، والانخراط في تحديدات عقدية لفكرة الجماعة، وعدم صرف انتباه كافٍ إلى مفهوم "الأمة"، الذي نجد أنّه رغم الاختلاف الأساسي فيه من حيث فكرة "الإمامة" الأولى للأمة، والتي تمّ التنازع على شأنها؛ هل هي تقوم بتكليف ديني أم بتدبير دنيوي؟ أقول رغم ذلك، إلا أنّ ليس هناك ما يمكن أن نسميه "نظرية إسلامية" للأمة؛ فقد كان مفهوم الأمة بالأساس مفهوماً جموعياً وروحياً متعلقاً بالانتماء.
مع سقوط الخلافة العثمانية وبزوغ الإسلاموية الحديثة سيكون الشعار الأساسي للإسلام السياسي هو استعادة الأمة
بيد أنّ هناك تحولاً سيحصل مع العصر الحديث؛ عندما سيتعرف العرب المسلمون إلى واقعة الدولة-الأمة (Nation-State)، التي ستكون الأمة/ الشعب بمثابة الحاضنة التي تعبر الدولة عنها، عرقياً وثقافياً وروحياً، ومع سقوط الخلافة العثمانية، وبزوغ الإسلاموية الحديثة، سيكون الشعار الأساسي للإسلام السياسي هو استعادة الأمة، وتكوين مفهوم، يشوبه الغموض، حول فكرة الأمة التي ينبغي إرجاعها لـ "الوحدة".
تقوم الدولة الأمة (الدولة القومية) على فكرة الإقليم، وفكرة الشعب المتخيل الذي يفترض سلفاً كعنصر تكويني لقيام هذه الدولة؛ أنّها دولة تمثّل شعباً، بماضيه؛ العرقي والثقافي والروحي، وبالتالي فهي تماهي بين آلياتها التصريفية كدولة، وبين حملها لفكرة أمّتية تعمل نيابة عنها، وقد تكون الدولة الأمة فاشية باعتقادها أنّ إرثها استثنائي وعرقها يتفوق على الأعراق الأخرى (كما في حالة هتلر)، كما يمكن أن تلعب دوراً مهمّاً في استجماع فكرة، ولو متخيّلة، عن الأمة لمحاربة الاستعمار (كما وجدنا في العالم العربي الحركات القومية والأنظمة التي تقوم على فكرة القومية ولو بصيغة مختلفة).
يمكننا القول: إنّ سقوط الخلافة العثمانية كان بمثابة انتهاء لعقد تاريخي تقوم فيه فكرة "السلطنة" على السيادة على أقاليم كبرى، تحت مسمى "الأمة"، وتدشين لعقد جديد ستكون هناك دولة (أو شبه دولة) هي طرف معادلة قوي فيه، وهذا الطرف سيشرط بالطبع المقولات والمفاهيم والرؤى التي تبزغ في إطاره.
ولذا؛ فإنّ الفكر الإسلاموي الحديث قد وقع في شباك الدولة، من حيث أراد، أو ظنّ، أنّه يفلت منها؛ فقد ارتبطت حداثياً فكرة الأمة مع فكرة الدولة، أو الشعب بالذين يمثلونه، ومن ثم أصبح تصور وجود أمة، ككيان متخيل، غير ممكن إلا من خلال تمثيل سياسي لهذا الكيان نفسه، فكما يوضح ناصيف نصار، في إشارته إلى حسن البنا المهمة في هذا السياق: "وبقدر ما يتطابق في فكر حسن البنا مفهوم الأمة ومفهوم الوطن، يتطابق مفهوم الأمة ومفهوم الدولة […]، ومن هنا بات من الواجب أن يدخل مفهوم الدولة الواحدة في مفهوم الأمة الواحدة" (ناصيف نصار، "تصورات الأمة المعاصرة: دراسة تحليلية لمفاهيم الأمة في الفكر العربي الحديث والمعاصر").
إذا كان البنا فتح الباب على تسييس أيديولوجي لمفاهيم دينية فالأمر تطور نحو مزيد من التسييس مع قطب والمودودي
لا خلاف في أنّ فكرة القومية، كنظام على المستوى السياسي، ومخيالي على المستوى الشعوري، هي فكرة حديثة تماماً، نبتت مع الحداثة السياسية المتأخرة، وصعود الأنظمة القومية في أوروبا بدايات القرن العشرين.
لم يترجم المسلمون الأوائل أنفسهم من خلال مصطلحات قومية، كما حصل مع الإسلاموية الحديثة؛ لأنّ مفهوم الأمة نفسه لم يكن مفهوماً سياسياً، كما أشرت، حتى فكرة الخلافة نفسها التي تحوّلت من مفهوم الإنابة إلى مفهوم السلطة والحكم، لم تكن تعمل بآليات مشابهة للدول الحديثة من ناحية التدخل والتصرف والعقاب، وهذا ليس دفاعاً عن الخلافة، إنما بالأحرى توضيح لآليتَي عمل، وزمنين، منفصلين من حيث البنية والغاية والتشكيل تماماً.
هناك تشوش إسلاموي منذ حسن البنا متعلق بفكرة الأمة والدولة والوطن، وهو التشوش الذي يظنّ أنّه يتملك التقليد الإسلامي ويقدمه في صياغة تلائم وضع المسلمين، في حين أنّ الفكر الإسلاموي نفسه ليس تمثيلاً للتقليد الإسلامي، وليس نقيضاً له في الآن نفسه؛ إنه محكوم بالشرط الحداثي الذي عاشته المجتمعات الإسلامية، وهي تتلقى الحداثة الغربية بكل تناقضات دخول هذه الحداثة؛ فالبنا، كداعية إصلاح وتغيير، هو تعبير دقيق عن مشكلات عصره، وليس للتقليد كما يظنّ الكثير.
وكتعبير عن ذلك، في بدايات القرن العشرين؛ عندما انتشرت الأيديولوجيات القومية في العالم العربي، حاول البنا أن ينازع هذه الأيديولوجيات باختراع فكرة "القومية الإسلامية" كمقابل للقومية الحديثة العلمانية، التي رأى البنا أنّها تقوم على مفهوم غير ديني للرابطة بين الناس.
يوضح ناصيف نصار هذا المفهوم عند البنا بالآتي: "كان حسن البنا أول من استعمل مصطلح القومية الإسلامية؛ فالجمع بين القومية والإسلام بهذا الشكل لم يرد عند المفكرين الإسلاميين السابقين الذين اكتفوا دوماً بمصطلح الأخوة الإسلامية أو بمصطلح الأمة الإسلامية".
ويضيف نصار: "ولعلّه أراد بهذا الاستحداث أن يدلل على الطابع الحركي للإرادة الإسلامية الوحدوية التي حملتها جماعة الإخوان المسلمين؛ وهي إرادة هادفة إلى جعل التطابق كاملاً بين الأمة الإسلامية والوطن الإسلامي، والدولة الإسلامية" (ناصيف نصار، تصورات الأمة المعاصرة).
لا شكّ في أنّ الشرط السياسي الذي كون تلك التصورات هو الذي يرجع إليه المرد في الصيغة السياسية لمفهوم كمفهوم الأمة في الخطاب الإسلاموي، وإذا كان حسن البنا قد فتح الباب على تسييس أيديولوجي لمفاهيم دينية؛ فإنّ الأمر سيتطور نحو مزيد من التسييس مع سيد قطب والمودودي، وصولاً إلى الصيغة النهائية لفكرة قطب عن "الطليعة القرآنية"، التي من شأنها أن تقود المجتمع والدولة بعد ذلك نحو الحقّ، وهو ما سمّاه في مواضع أخرى "الجيل القرآني الفريد".
والحال أنّ الأستاذ سيد قطب، في معركته الشرسة ضدّ ما أسماه "الجاهلية المعاصرة"، قام بعملية نزع أيّة شرعية عن المفاهيم الحديثة من الانتماء والهوية والقومية، إلى الحدّ الذي وصل به إلى القول في نصّه "جنسية المسلم عقيدته": إنّ "شعب الله المختار حقاً، فهو الأمة المسلمة التي تستظل براية الله، على اختلاف ما بينها من الأجناس والأقوام والألوان والأوطان".
أدّى التسييس الأيديولوجي الإسلاموي للمفاهيم إلى خلق قراءة حركية تستدخل الماضي الإسلامي في صراع مع الراهن
كان قطب مشدوداً نحو إلغاء التاريخ، تاريخ المسلمين وتاريخ الأفكار، للرجوع إلى لحظة الوحي كما هي، وهو بفعله ذلك، فقد رفض التقليد، بكلّ ما يتضمّنه من فقه وعقيدة وتراث ثقافي، بمثابة مصادر للنفس المسلمة، للرجوع إلى لحظة صفر ميتافيزيقية.
أدّى التسييس الأيديولوجي الإسلاموي للمفاهيم إلى خلق قراءة حركية تستدخل الماضي الإسلامي، لا سيما الفترة النبوية، في صراع مع الراهن، وبالتالي ستقرأ السيرة النبوية نفسها على أنّها مسيَّرة سياسية بالأساس؛ إنني لا أنفي الطبيعة السياسية للفترة النبوية، لكن ما أشير إليه؛ هو كيف تستدخل قراءة معينة تاريخاً وشرطاً مغايرَين في تاريخ وشرط آخر بنوع من الأدلجة لخدمة مفاهيم معينة، بالتالي، تغدو "الشورى" ديمقراطية، وصحيفة المدينة بـ "الدستور".
هذه القراءة الحركية للمفاهيم والإسلام عموماً، التي يمكن قراءتها من حسن البنا، وحتى الكتب المعاصرة، كـ "القراءة الحركية للسيرة النبوية"، لمنير الغضبان، هي نتاج تلفيق ناجم عن عدم وعي بطبيعة الشرط المعرفي الذي أنتج مفاهيم معينة بحمولات معرفية مختلفة، وأيضاً ينمّ عن جهل بالطبيعة القرآنية لهذه المفاهيم التي تمت مقاربتها على نحو سياسي، دون أيّ مفعول في الواقع لها.