الحبيب الأسود يكتب:

ليبيا تتكبد خسائر بالمليارات بسبب الصراع على السلطة

تحولت ثروات ليبيا الهائلة من نعمة إلى سلاح لاستدامة الفوضى وإطالة عمر الحرب، بعد أن استحوذت الميليشيات في طرابلس على منابعها وعائداتها ما سمح لها بتمويل أنشطتها واستدامة أمد استحواذها على السلطة بدل البحث عن حل سياسي يوقف نزيف الاقتتال، فيما يدفع الشعب الليبي ثمن مراهنة الحكومة التي تكنّى بـ”حكومة الوفاق الوطني” على المجموعات الإرهابية وأمراء الحرب للبقاء في السلطة.

إن كانت لليبيا من نقطة ضعف فهي ثروتها. هذه الثروات هي محرك الحرب ووقود الفوضى وعدم الاستقرار. تستمد منها الميليشيات مصدر استمرارها. وتضع يدها عليها فيالق من المستفيدين من استشراء الفساد، الذي يعدّ أحد أخطر الأسلحة الهادمة للدولة الليبية.

ينخر الفساد ليبيا متسترا تحت عباءة الانقسامات الداخلية وتنافس حكومتين واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، والحرب بين حكومة الوفاق، المدعومة من الميليشيات في طرابلس، والجيش الوطني الذي يسعى إلى لم الشمل الليبي بتحرير طرابلس من قبضة الإسلاميين والجماعات المسلحة والمستفيدين من الفساد من مؤولين سياسيين ومهربين وإرهابيين وغيرهم.

نخبة تحمي الفساد

إن أخطر ما تتعرض إليه أي دولة ما هو أن تكون على رأس مؤسسة حماية الشأن العام نخبة سياسية يتمركز وعيها الأساسي حول الثروة وأساليب السيطرة عليها. والأخطر من ذلك أن تزعم تلك النخبة أنها تدافع عن قيم مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وصولا إلى شعار مقاومة الفساد.

ولعل أبرز ما فضحته مشاريع التحولات السياسية بواسطة الإطاحة بأنظمة الحكم في المنطقة العربية بدءا من العراق في العام 2003، هو أن الصراع الحقيقي بين الأنظمة المطاح بها والمعارضة وخاصة المقيمة بالخارج كان من أجل الثروة. وتجلى الصراع في أوضح أبعاده في إمساك هذه النخب الصاعدة في زمن الفوضى بمفاتيح البنك المركزي ومؤسسات النفط.

تجسد هذا الأمر بقوة في ليبيا منذ 2011، عندما تحالف رأس المال الفاسد ممثلا في رجال الأعمال المتمتعين بالقروض المصرفية الضخمة والمكلفين بإدارة المشاريع الكبرى مع الجماعات الإرهابية لركوب موجة الاحتجاجات الاجتماعية. وكان لافتا أنه من أول المواقع التي تم قصفها بطرابلس من قبل طيران حلف شمال الأطلسي (الناتو) آنذاك مقر وزارة التفتيش والرقابة الشعبية التي كانت تعنى بملفات الفساد.

وعندما سقط النظام تحولت المصارف وخزائن الدولة إلى أهداف مباشرة للمسلحين، وهو ما يفسّر الثراء الذي أصبح عليه بعض أمراء الحرب في غضون أسابيع قليلة من سقوط نظام معمر القذافي. وقد كان أغلبهم من المهمشين والفقراء أو من السجناء في الداخل أو ممن كانوا يعيشون برواتب المساعدات والضمان الاجتماعي في عواصم الغرب.

الفساد في ليبيا ليس جديدا وإنما كان موجودا في العهد الملكي وفي عهد القذافي، وكان من الصعب تمرير صفقة دون عمولات. كما كان التلاعب بموازنات المشاريع واضحا. وتعطلت العشرات من المشاريع العملاقة التي أقرت في إطار برنامج «ليبيا الغد» بسبب الفساد المستشري، وأصحابه الذين دمروا كل المشاريع الجيدة بحجة أنها من العهد القديم.

خلال الأعوام الثمانية الماضية، تحول الفساد إلى نظام حكم سواء من خلال المؤتمر الوطني العام أو المجلس الرئاسي الذي جاءت به اتفاقية الصخيرات. وبينما يعاني عموم الليبيين من الفقر والعوز وغلاء الأسعار وفقدان الخدمات الأساسية وتأخر الرواتب الضعيفة، يتحكم أصحاب القرار السياسي وأمراء الحرب وقادة الميليشيات والمقربون منهم في مداخيل النفط والغاز.

ويحمي أغلب هؤلاء أنفسهم بإقامات سارية في دول غير مرتبطة مع ليبيا باتفاقيات لتبادل المطلوبين للعدالة. ويكفي للمرء أن يلقي نظرة على مقاهي ومطاعم وفنادق الأحياء الراقية في دول مثل تونس أو تركيا أو مصر أو غرب أوروبا ليكتشف طبيعة البذخ الذي يعيشه لصوص المال الليبي.

آفة هدامة
في العام 2017 تم تصنيف ليبيا من أكثر تسع دول فساد في العالم. وفي سنة 2018 حلت في المركز 170 من بين 180 دولة بـ17 نقطة من أصل 100 في مؤشر النزاهة والشفافية.

وقال ديوان المحاسبة إن الفساد “آفة هدامة” انتشرت ظواهرها في مؤسسات البلاد في الداخل والخارج نتيجة لتراكمات، أهمها: الانقسام السياسي وازدواج السلطات، إلى جانب غياب الدور الحقيقي لمؤسسات الدولة، مشيرا إلى أنه أورد في تقاريره أرقاما مفزعة تشير بوضوح إلى حجم الفساد، حيث أنفقت الدولة من عام 2012 وحتى 2017 ما قيمته 270 مليار دينار (190 مليار دولار) لا يظهر لها أثر ملموس على الأرض.

وحتى الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا غسان سلامة، دلا بدلوه في موضوع الفساد، عندما أوضح أن مدى النهب الحاصل في ليبيا لا يمكن تقديره ولا يمكن تقدير مدى عملية الفساد وسرقة الأموال العامة.

وتحدث سلامة عن وجود طبقة سياسية في ليبيا لديها مستوى عال من الفساد ومن التقاتل على الكعكة، لافتا إلى أن عملية توزيع ما وصفها بالثروة الهائلة التي تتمتع بها ليبيا تحتاج إلى شفافية أكبر.

وقال في وصفه لحجم الفساد “هناك مليونير جديد كل يوم في ليبيا”. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فأباطرة الفساد اتجهوا إلى الاستثمارات الخارجية وأيضا إلى نهب أموال الدولة الليبية الموجودة في الدول الأجنبية عبر التعاون مع شبكات متخصصة. وكان للإسلاميين دور مهم في هذا الاتجاه، وهم الذين ابتكروا إشاعة أن تلك الاستثمارات والأرصدة هي أموال القذافي شخصيا، رغم أنها مسجلة باسم الدولة الليبية ومؤسساتها.

وفي العام 2011 جمدت حكومات أجنبية أموالا ليبية سيادية تقدر بنحو 150 مليار دولار و144 طنا من الذهب، منها 1.2 مليار يورو مودعة في بنوك نمساوية، و12 مليار جنيه إسترليني في بريطانيا وفي كندا 2.3 مليار دولار كندي، وفي فرنسا 6.7 مليار يورو، وفي ألمانيا أكثر من 7 مليارات يورو، وفي إيطاليا 8 مليارات دولار، إلى جانب 827 مليون دولار في البنوك السويسرية، وما يقرب من 34 مليار دولار مجمدة في مصارف الولايات المتحدة.

ولعل أبرز مثال على الفساد الحاصل في الأموال الليبية ما حدث في بروكسل عندما اكتشفت السلطات البلجيكية في خريف سنة 2017، اختفاء جزء كبير منها رغم التجميد. قُدّر المبلغ المفقود بـ10 مليارات يورو، من مجموع 16.1 مليار يورو، معظمها في بنك يوروكلير، الذي جمد في نوفمبر 2013، 4 حسابات تابعة للهيئة العامة للاستثمار الليبية، والشركة الليبية للاستثمارات الأجنبية في البحرين ولوكسمبورغ.

اليوم هناك صراع عسكري في ليبيا، كثير من السياسيين لا يريدون له أن ينتهي خشية أن تطرح نهايته حلا سياسيا يستبعدهم من السلطة حيث مصدر النفوذ الثروة. وهؤلاء قد يختلفون سياسيا وعقائديا وفكريا وحزبيا ومناطقيا وقبليا ولكنهم لا يختلفون على ضرورة أن يستمروا في مواقعهم.

الأمر ذاته بالنسبة لأمراء الحرب وقادة الميليشيات والمرتزقة ومهربي الأسلحة والوقود وتجار البشر والمضاربين على العملات ولصوص الاعتمادات الذين يجدون أن استمرار الحرب يعطيهم مساحة من الأمن والاستقرار في مشاريعهم بينما عودة مؤسسات الدولة ستجفف منابع الأموال.

وفي مواجهة رقعة الفساد الممتد، يدفع الجيش الوطني الليبي برجاله في ساحات القتال من أجل إعادة بناء الدولة وتحصين مجتمعها وحماية مقدراتها واستعادة ثرواتها المنهوبة لتأسيس ملامح ليبيا الغد الأفضل