كرم نعمة يكتب:

فشل ذريع لـ"الإعلام الصديق" في العراق

لم يتأخر الرد الواقعي كثيرا على مقالي المنشور قبل أسابيع هنا عن كذبة آسنة اسمها حرية الإعلام في العراق.

لقد حظي المقال بالنقد الهجومي أكثر من مناقشة فكرته، واتهم بالمبالغة والنظر بعين من مسافة بعيدة، واتّهمتُ بالتشكيك بالحرية المتاحة للإعلام العراقي وقدرة الصحافيين على تناول المحظور!

لكنني لم أحتج إلى وقت مضاف كي أعد ردي أو أعيد ترتيب الفكرة التي تناولتها بشأن كذبة كبيرة بهيئة مزحة اسمها “حرية الإعلام” بصفتها بندا مضمونا في دستور الدولة وجزءا من ديمقراطيتها المزعومة. فإذا كانت الصحافة بالعالم تعيش زمنا ليس عادلا بحقها فإنها في العراق تتحول إلى مجرد اسم بمضمون هش. وهذا يفسر لنا لماذا تستمر عملية إهانة جوهر الصحافة في العراق بجعلها مجرد صدى للمايكروفونات الصارخة في المساجد والعتبات والمناسبات الدينية.

لقد جاء الرد على الأرض دمويا معبرا بامتياز عن فكرتي. ولم أحتج أن أعيد الدفاع عنها، عندما تمت مهاجمة مكاتب وسائل الإعلام التي غطت تظاهرات الاحتجاج في العراق.

الذي حصل أن مراسلين تلقوا تهديدات صريحة بالتصفية الجسدية من قبل عناصر ميليشيات تدين بالولاء لإيران، وأن الحكومة العراقية نجحت في إخضاع جميع وسائل الإعلام المحلية، وبعض وسائل الإعلام العربية، بالاستعانة بعناصر الميليشيات في مشهد غريب، يكشف عن نوايا دكتاتورية مخيفة.

وفي مشهد مرعب يعكس حجم الهيمنة الإيرانية في العراق جال مسلحون ينتسبون إلى سرايا الخرساني، إحدى الميليشيات المنضوية تحت الحشد الشعبي، على مباني وسائل إعلام حاولت تغطية تظاهرات العراق، فأحرقوا بعضها وضربوا الصحافيين وهشموا المعدات.

وقال صحافي في قناة “الرشيد”، التي غطت المظاهرات عن كثب، “تلقينا تهديدات مباشرة بشأن تغطيتنا للاحتجاجات، لقد أخبرونا، إما أن تغيروا خط التحرير الخاص بكم، أو سيكون مصيركم مماثلا للبقية (…) لذلك فضّلنا الحد من تغطيتنا”.

لقد تجسدت كذبة حرية الإعلام في العراق قبل أسابيع من التظاهرات، بعد إغلاق مكتب قناة الحرة إثر بثها تقريرا مست فيه الفساد المتفاقم في البلاد بإدارة رجال دين ومرجعيات تُضْفَى عليها هالة المقدس، اشتغل على التقرير بجرأة وبراعة فريق صحافي يستحق الثناء والمؤازرة من الكادر الإعلامي في العراق قبل الجمهور، لكن الذي حصل بعدها هو التنكيل بفريق العمل الصحافي ومعاقبة القناة على كشفها الحقائق.

الصراخ المستمر لا يمكن أن يغيّب الحقيقة الساطعة في أن كل ما يجري في العراق السياسي اليوم فكرة افتراضية بدءا بالحكومة وانتهاء بالقضاء. فإذا كانت لدينا حكومة افتراضية لا يمكن أن نتحسس قوتها على أرض الواقع إلا تحت سطوة الميليشيات المسلحة، يصبح من العبث التحدث عن حرية الإعلام.

منذ عام 2003 لا توجد فكرة حقيقية للدولة في العراق، لا الأحزاب الحاكمة تؤمن بهذه الفكرة ولا تريد العمل بموجبها، ومن مصلحة القوى الدينية ألا توجد دولة، لأن هذا يعني ببساطة رصيدا هائلا يصب في حسابها. وعندما لا توجد دولة لا يوجد أعلام، بينما التاريخ يعتز في مدونته بأن الرجال الأقوياء الذين كتبوا الدستور الأميركي فضلوا دولة بلا حكومة على دول بلا صحافة.

وفي حقيقة الذي يحصل في العراق؛ لا يوجد صدام فكري، هناك كذب شنيع لا تمسه حمرة الخجل الشكسبيرية عن حرية الإعلام والدولة الديمقراطية والدستور، في دولة مخطوفة أصلا من قبل الميليشيات الطائفية. فعندما شعر الكيان الطائفي بالتهديد الحقيقي برزت الأصوات الهامشية لتكون صدى لمزاعم المرشد الإيراني علي خامنئي عن “وحدة الطائفة”، واضعا إياها فوق أي اعتبار وطني. يكفي هنا العودة إلى تصريحات قيادات الحشد الشعبي ورجال دين بشأن بقاء الدولة الشيعية في العراق وأن المظاهرات خرجت لتهدد حكم الطائفة! وبعد، لنا أن نراقب الإعلام الذي ينتج عن دولة طائفية.

هناك تهمة جاهزة يرددها عناصر الميليشيات ورجال الدين في العراق، يوصم بها كل من ينشر الحقيقة بـ“الإعلام العدو”، لكن السقوط المريع يتمثل في “الإعلام الصديق” عندما يصنع خطابه بسطحية مريعة تنم عن موت الأفكار وإعادة تكرار المكرر في تبريرات لا تستطيع الصمود في الدفاع عن فكرتها. هذا ما يحدث في الإعلام العراقي اليوم، فشل ذريع لـ “الإعلام الصديق” أن يكون بديلا لما يمكن أن تسميه السلطات الحكومية والأحزاب الدينية الحاكمة والميليشيات بـ “الإعلام العدو”.

الصحافة تتغير، لكن الشكوك مستمرة في تغير سلوك الحكومات، وهذا ما حصل في العراق خلال موجة الاحتجاجات الدامية، كانت الصحافة ضحية حقيقية، بعد أن فقدت مصادرها إثر قطع الإنترنت وحجب الاتصالات وحرمت المواطن الصحافي من إيصال رسالته.

السؤال الأكبر هو ما إذا كان الذي حصل لوسائل الإعلام في العراق أثناء الاحتجاجات يمكن أن يكون نقطة البداية الواضحة بشأن فرضية حرية الإعلام هناك.

كل الكلام الذي قيل من قبل المسؤولين العراقيين بشأن التحقيق مع المعتدين على وسائل الإعلام لا يمثل شيئا حقيقيا، لأن الواقع الهزيل أكبر من كل الكلام المكرر. لكن ما الآثار المترتبة على كل الذي حصل في الأيام الماضية لوسائل الإعلام في العراق؟ يمكن التفكير بعدة سيناريوهات محتملة، لكن أسوأها هو الانصياع للميليشيات المتنفذة في العراق، وهذا ما حدث لبعض “الدكاكين الإعلامية” عندما تخلت عن جوهر عملها في نشر الحقيقة وتبادل المعلومات في ديمقراطية حرة من الأفكار، وقبلت دور الهامش للخاطفين.

إذا كان سيناريو يوم القيامة العراقي أو انفجار قدر الضغط الكاتم، قد اتضحت معالمه في التظاهرات المتصاعدة في العراق، فإن الدرس مازال مستمرا لوسائل الإعلام التي ترى ثمة حرية حقيقية لصحافة في بلد مخطوف!