الحبيب الأسود يكتب:

قيس سعيّد: بلاغة اللغة والعاطفة في مواجهة تحديات كبرى

جمع الرئيس التونسي الجديد قيس سعيّد في كلمته أمام برلمان بلاده أمس بين بلاغة اللغة وبلاغة العواطف. كان النص مترف الإيقاع بما يتجاوب مع لكنة صاحبه وجهورية صوته، وكانت العواطف مسيطرة على المضمون، بشكل جعل الكلمة أقرب ما تكون إلى بيان زعيم شعبي أثناء تسلّمه الحكم بعد ثورة قطعت مع ما سبقها.

يبدو واضحا أن الرئيس هو من كتب كلمته بنفسه، وكان صارما في اختيار مفرداته الأولى التي واجه بها الداخل والخارج بعد أدائه القسم، فهو يدرك أن كل كلمة لها أهميتها القصوى في مثل هذه الظروف وفق معايير فهمها لدى الأطراف المتلقية، وهذا ما جعله يحسب حسابا دقيقا للعبارات، وحتى للفواصل والنقاط، وهو أمر منطقي بالنسبة لأكاديمي في مجال القانون الدستوري، ولرجل صاحب رؤية سياسية وثقافية، وكذلك لرئيس دولة يحيط الغموض بشخصه ومرجعيته الفكرية وبالطريقة التي أدار بها مشروعه للوصول إلى أعلى هرم السلطة في بلاده من خارج الأحزاب والدولة ومنظومة الحكم والطرائق التقليدية في العمل السياسي.

وأمام ممثلي الشعب، عمل سعيّد على طمأنة عموم التونسيين بأن “تونس دولة مستمرة بمؤسساتها لا بالأشخاص الذين يتوالون على إدارتها، والدولة التونسية ملتزمة بكل معاهداتها الدولية”، وكذلك التأكيد على أن “المسؤولية الأولى لرئيس الدولة هي أن يكون رمزا لوحدتها وضامنا لاستقلاليتها واستمراريتها وساهرا على احترام دستورها، وعليه أن يكون جامعا للجميع وعليه أن يعلو فوق كل الصراعات الظرفية والضيقة”.

لكن ما يمكن استشفافه كذلك، أن سعيّد كان يستبطن في كلمته ما ينتظره منه أنصاره، وخاصة في ما يتعلق بتحقيق آمال التونسيين في الحرية والكرامة وعلوية القانون ومسؤولية حمل أمانة الدولة والفقراء والبؤساء وأمانة ابتسامة الرضيع في المهد، ومقاومة الفساد حيث “لا مجال للتسامح في ملّيم واحد من عرق أبناء الشعب”، وحماية الثروات وإمكانية تطوير تعهدات الدولة مع الخارج في المسار الذي يخدم مصالحها، إلى جانب التركيز على الشهداء وحقوقهم.

كما أن الرئيس الجديد حافظ على طوباويته بمخاطبة أنصاره بإمكانية أن تفيض خزائن الدولة وتتخلص البلاد من التداين والاقتراض بمجرد أن يتبرع التونسيون بأجرة يوم عمل شهريا ولمدة خمس سنوات، انطلاقا من قناعته بأن “التونسيين والتونسيات في حاجة فقط إلى علاقة ثقة جديدة بين الحكام والمحكومين، وليساهم الجميع في هذه العلاقة التي افتقدوها منذ زمن بعيد”.

ولعل سعيّد أراد بهذا المقترح أن يخاطب أصحاب حملة “عودة الوعي” من الشباب المتطوع لتنظيف الشوارع والساحات، ولمن يرفعون الكثير من الشعارات التي سيكون الزمن كفيلا باختبارها، فالناس عموما عاطفيون وقد يندفعون لتبني فكرة عظيمة والعمل بها، ولكن إلى حين ثبوت تأثيرها الفعلي في حياتهم، وهذا التأثير في نظام كالقائم في تونس حاليا سيكون وليد جهود الحكومة والبرلمان الفاعلين الأساسيين في البلاد، وليس لرئيس الدولة إلا ما يتصل بصلاحياته في تشكيل أو إدارة تلك الجهود.

بالمقابل تحدث سعيّد عن تعهده بصيانة الحريات، لكن دون أن يحدد المقصود منها، هل هي الحريات العامة أم العامة والخاصة، خصوصا في ظل مواقفه المعلنة سابقا من بعض الفئات، لكنه عمل على طمأنة المرأة بأن لا مساس من حقوقها التي ستشهد المزيد من الدعم خاصة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

ولعل من مفاتيح كلمة الرئيس التونسي الجديد ما تضمنته من الإشارة إلى “أن من يريد الرجوع بالتونسيين إلى الوراء يلهث وراء السراب ويسير ضد التاريخ”، وهي جملة تحتمل الكثير من التأويلات، وما إذا كانت تعني التاريخ القريب أم البعيد. هل تعني مثلا رغبة جانب من الإسلاميين في العودة إلى الخلافة، أم رغبة جانب آخر منهم في العودة إلى الدولة الشمولية تحت غطاء الدين، أم عودة الدكتاتورية والاستبداد؟ أم أنها كلمة سر موجهة لأنصاره بأنه بصدد طي صفحة الماضي بكل تفاصيله في اتجاه مشروع سياسي جديد يعمل على ترسيخه خلال فترة حكمه.

سعيّد كان صارما وحازما في موقفه من الإرهاب، فمن سيطلق رصاصة سيقابل بوابل من الرصاص، هذا الموقف يشير إلى أن على المتشددين أو من يبحثون عن توافقات معهم، أن يدركوا جيدا ما ينتظرهم. الرصاصة قد تخرج من بندقية إرهابي لكن الوابل من الرصاص سيستهدف الإرهابي ومن يقف معه ووراءه.

من الإشارات الغامضة التي وردت في كلمة سعيد تأكيده على أن المنظمات الوطنية هي قوة اقتراح، دون أن يحدد تلك المنظمات رغم أنه من الواضح أنه يعني بالأخص الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين واتحاد المرأة التونسية، رغم أن اتحاد الشغل مثلا لا يكتفي بدوره ككتلة اقتراح، وإنما هو قوة فعل أساسية في البلاد، الأمر الذي جعله في مرمى انتقادات بعض الأطراف وعلى رأسها قوى الإسلام السياسي، وبعض من يحسبون أنفسهم على مناصرة الرئيس الجديد.

وتابع أن آمال التونسيين كبيرة وحقوقهم مشروعة وليس لأحد الحق في أن يتجاهلها أو يتناساها، قائلا “من الرسائل التي يجب توجيهها من هذا المنبر ومن هذا المكان أن تونس دولة مستمرة بمؤسساتها لا بالأشخاص الذين يتوالون على إدارتها، والدولة التونسية ملتزمة بكل معاهداتها الدولية وإن كان من حقها المطالبة بتطويرها في المسار الذي يخدم مصالحها، وأهم من المعاهدات المكتوبة والبنود والقصور هو التفاهم بين الأمم والشعوب من أجل الإنسانية جمعاء”.

في كلمته تجنب قيس سعيّد التطرق إلى موقفه من مجمل القضايا والملفات الإقليمية والدولية ما عدا القضية الفلسطينية التي تحدث عنها بتدفق عاطفي، من دون أن يوضح موقفه مما نسب إليه سابقا من الحديث عن أن بلاده في حرب مع إسرائيل، بالإشارة إلى أن المعركة ليست مع اليهود الذين كان التونسيون قد حموهم خلال الحرب العالمية الثانية، لافتا إلى موقفه “ضد الاحتلال وضد العنصرية وضد احتلال تواصل لأكثر من قرن”، وهو موقف حقوقي أكثر منه سياسي، أي دون إشارة إلى الحل الذي يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، كأن يكون الدفاع عن مبدأ دولة فلسطينية في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس، وهو المبدأ الذي يستند إلى خيارات السلطة الفلسطينية والشرعية الدولية.

كلمة سعيّد كانت بليغة اللغة والعواطف، لكنها لم تطرح أية حلول، ولم تصرح بكيفية مواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها البلاد، يمكن تفهم ذلك باعتبارها صادرة عن رجل يطرق لأول مرة أبواب الشأن العام والعمل السياسي والوظيفة على مستوى إدارة الدولة، ولكن الأيام القادمة ستكون كفيلة بفهم ما سيتم الاعتماد عليه في ترجمة طوباوية الرئيس الجديد إلى فعل حقيقي على أرض الواقع بتشعباته المختلفة.