كرم نعمة يكتب:

الأخطر من سقوط هيبة اللغة تسليع الذات على وسائل التواصل

هل يجدر بنا أن نفند الفكرة القائمة وبقوة اليوم بشأن أن تكون كاتبا، هذا يتطلب منك أن تجعل من نفسك منتجا جاهزا للاستهلاك العام على مواقع التواصل؟ أن يكون نصك مُنتجاً مُستهلكا غير أن تكون مقروءا، القراءة بمفهومها المعرفي لا تنطبق على ما نقرأه على مواقع التواصل.

لا تبدو الحاجة ماسة وعاجلة للكثير من الكتاب لتفنيد ذلك الواقع الرقمي القائم، مع أنه نزول عن هيبة اللغة لتقديم صورة سطحية ملائمة لجيل الويكيبيديا عن طبيعة الكتّاب على مواقع التواصل الاجتماعي.

الأمثلة قائمة ويسيرة في التناول، لنأخذ مثلا الروائي البرازيلي باولو كوهيلو، عليه أن يكون مادة “للاستهلاك” على مواقع التواصل الاجتماعي عندما يتأمل هذا العدد المخيف من المتابعين له، يكفي أن نشير إلى أن حسابه على تويتر يتابعه أكثر من 15 مليون شخص، وتلك خدمة مغرية لا توفرها أعداد القراء الطبيعيين لكتبه.

مع ذلك، يصعب أن نجد معادلا موضوعيا بين القارئ لروايات كوهيلو وبين نسبة كبيرة من ملايين متابعيه على تويتر، بالطبع لا يندر أن يكون من بين هؤلاء الملايين من هم قراء حقيقيون وشغوفون بروايات الكاتب البرازيلي، لكن ذلك ليس كافيا لإيجاد المعادل الموضوعي.

لن يتردد المستاؤون من تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على مفهوم المعرفة في القول بأن كوهيلو “يبيع نفسه” على وسائل التواصل الاجتماعي، فإغراء الملايين من المتابعين أكبر من أي مبرر إبداعي آخر. وهنا يكمن الخلاف بشأن معرفة الخط الفاصل بين إخلاص المؤلف لجوهر الكتابة وحدها وبين شهرة أسلوب الحياة الرقمي الجديد.

علينا ألا نخلط مفاهيم الشهرة الرقمية عندما يتعلق الأمر بعارضات الأزياء ونجوم السينما والغناء والرياضة، وبين من يصنع أفكارا، من السهل أن تبيع عارضة أزياء جميلة أو لاعبة تنس رشيقة صورها المغرية بعد نشرها على مواقع التواصل، لكن علينا أن نتفق على مفاهيم جديدة متعلقة بالأفكار التي يعرضها كتاب وأدباء ومفكرون على منصاتهم الرقمية.

سبق وأن حذر الروائي الأميركي جوناثان فرانزين الجيل المعاصر من إضاعة وقته في المزيد من التغريدات عبر تويتر، بدلا من تطوير أدواته في الكتابة.

هذا الكاتب الذي يوصف بأنه من بين أهم الروائيين المعاصرين، بعد أن وضعت أعماله في لائحة الأكثر قراءة، وصف الكتابة بأنها ليست مؤسسة طائفية جماعية كي تجمع حولها الآخرين، بقدر ما هي جهد خيالي شخصي.

وحذر فرانزين الكتاب الشباب الذين يجهدون أنفسهم على زيادة تغريداتهم على الشبكة الاجتماعية قبل النظر في مخطوطاتهم للنشر، لأنهم يعتقدون أن لا أحد من الناشرين سينظر في مخطوطاتهم قبل أن يكون لديهم 250 من المتابعين على تويتر.

ويعتقد أن التكنولوجيا تركت عواقب غير مقصودة على الكتابة الإبداعية عبر وسائل الإعلام الرقمية خلال العقدين الماضيين.

المشكلة تكمن في أن الكثير من الكتاب يعرّفون أنفسهم بسطحية تهدد هيبة اللغة وجوهر الكتابة، في نشر رسائل إخبارية ومدونات قصيرة تتمحور حول الصورة أو النشاط الاستهلاكي الذي يتكرر عند كل الناس، في يوميات خالية من العمق والتأمل في أحوال العالم، وهذا يكشف عن نوايا الكاتب غير الإبداعية عبر فكرة البيع القائمة في البحث عن المزيد من الأصدقاء الافتراضيين، وهم في حقيقة الأمر لا يشكلون معادلا بأي حال من الأحوال للقراء الفعليين، أو بتعبير الروائي الألماني الراحل غونتر غراس الذي وصف مواقع التواصل الاجتماعي بـ”الهراء” مطالبا بالابتعاد عنها ورافضا أن يكون جزءا منها بقوله “إن الفكرة التي تخضع للاتصال بصورة مستمرة، والتي ربما تتعرض للمراقبة، هي فكرة بغيضة”.

الكتابة الحقيقية أكثر أهمية من تسليع الذات عبر التغريدات العابرة والسطحية

يمكن للقراء الحقيقيين، إذا افترضنا وجود ما يمكن أن يسمى بقارئ افتراضي متسرع، عدم الاهتمام بتسويق مشاهير نجوم الفن والسياسة لأنفسهم على مواقع التواصل، لكن من الصعب أن يسامحوا كاتبا ألهمهم عندما يجدونه يقدم نفسه مثل أي منتج آخر للاستهلاك التجاري على الإنترنت. الخيبة تكمن في تقديم الأفكار الإبداعية كمنتجات قابلة للتدخين أو الارتداء أو الازدراء!

عندما يتعلق الأمر بما يسمى “بناء العلامة التجارية الشخصية” فيبدو من الأفضل للكتاب ترك نصهم أن يفعل ذلك، فليس من مصلحة الكتابة أن يقدم متنها نفسه بطريقة مثلما تفعل صورة عارضة جميلة في حسابها.

إن لم تكن مشهورا على وسائل التواصل، فهذا لا يمت بصلة إلى نوعية منتجك الإبداعي، بيد أن الأمر برمته ليس مصدرا للقلق بالنسبة للكاتب كما يرى جوناثان فرانزين. فالملايين الذين يتابعون كوهيلو على تويتر ليسوا هم العينة المثالية لقرائه. ذلك ما يجعله أقل قلقا من ذلك الانهماك المستمر الذي ينقل فيه كل ما يصادفه في الحياة على حسابه، وفي حقيقة الأمر أنا أشك بأنه يدير مثل هذا الحساب الذي يتطلب مجهودا إعلاميا جبارا، لأن الوقت الذي يقضيه في التفاعل مع ملايين المستخدمين يتطلب منه أن يقضي وقتا مضاعفا آلاف المرات عما يخصصه لكتابة رواياته، وهذا أمر يدفعنا للتحذير من تحول الكتابة من إبداع فردي ملهم إلى مؤسسة جماعية تدار من قبل فريق رقمي يتطلب إدامة حساب شخصي على مواقع التواصل.

الكتابة الحقيقية أكثر أهمية من تسليع الذات عبر التغريدات العابرة والسطحية، ومواقع التواصل ليست ممثلا معبرا عن الكتّاب والكتابة معا، فجوهر الإبداع أكثر أهمية من التمثيل على الحسابات الشخصية التي أضحت فضاء للغريزة أكثر منها مساحة لصناعة الأفكار العميقة وتبادل المعلومات.

وفي كل الذي يحصل في العصر الرقمي لا أحد محصن من هذا الإغراء الذي صار شغفا تقودنا إليه أجهزتنا التي أضحت عينا ثالثة. لكن الأخطر من كل ذلك هو الهبوط المريع لكتاب معروفين إلى الثقافة السائدة وتهديم اللغة بمعاول التعابير الركيكة بلهجة دارجة، والتكرار السطحي من دون أي خشية على هيبة اللغة ورفعها. الأخطر من تسليع الذات بالنسبة للكتّاب على مواقع التواصل هو التعريف بأنفسهم كجزء فعال من “جيوش الحمقى” الذين يعج بهم الفضاء الرقمي وفق تعبير أمبرتو أيكو.