الحبيب الأسود يكتب:

بلد من القش يطفو فوق بحيرات من البترول

"أنا لست رجلا مهمّا ولا صاحب سلطان ولكنّ إيماني بالله يجعلني أحسّ بأنّني سأظفر بصداقة الكثير من الرجال الطيبين. وقد حدث ذلك وما زال يحدث كل يوم. وعندما تطويني غربتي وأحسّ بالألم يؤذيني من كل جانب، أرفع رأسي إلى الله وأقول له إنّني وحيد. أبدا لم يتخلّ الله عني، كان يمدّني دائما بعون ما، بأصدقاء طيبين مثلكم، وسوف يفعل ذلك دائما أيضا، لأنّه يعلم أنّني لا أملك سواه، ولا أريد أن أملك سواه. أنا قويّ بإيماني، أقوى من وحدتي وظروفي المحزنة. وإذا التقينا في يوم ما فسوف أقصّ عليكم ما الذي يستطيع رجل وحيد مثلي أن يفعله بالإيمان وحده".

بتلك الكلمات قدم صادق النيهوم نفسه، كان رجلا ممتلئا بالإيمان والوحدة، مهموما بما حوله، متأسيا بالقلم والورقة، ليكتب وفق قوله «لبدلة النحاس المتينة، لأربعة آلاف ميل معبّأ بالشوق والأمنيات، للجزار وباعة العظام وسائقي عربات الأجرة والنقل، وللخفراء والطلبة.. أنا أكتب لكل من أعرفهم، وليس ثمة ما يخيفني من أي اتجاه، فالنقد لا يشعرني بالارتباك. وإذا كان أحد لا يفهمني الآن، فسوف يأتي رجل آخر ويفهمه كل أحد على الفور. أنا لا أريد أن أحقق شيئا سوى أن أهيّئ مكانا لذلك الرجل القادم في الطريق. أجعله أكثر ألفة وأعطيه فرصة ليقترب خطوتين. ما يمدّني بالقوة: أنا أعرف أنه قادم، وأنت تعرف ذلك أيضا».

سيكون على النيهوم أن يقضي الجانب الكبير من حياته غريبا في ملاذات عدة، وبين مدن كثيرة، هاربا من الشمس اللافحة إلى الثلج الحارق، متراوحا بين أفكار واهتمامات ورؤى وخرافات وأسئلة ومواقف ولغات وحضارات وعقائد طالما ألهمته القدرة على مواجهة قدره، بعد أن استشرف مستقبل بلده ليبيا بعيني زرقاء اليمامة ونبوءات عراف يجيد قراءة الرمل «إن ليبيا بلد مبني من القش ويطفو فوق بحيرات من البترول فما أسهل أن تندلع النار فيه، أن تحرقه من أساسه، ولكن ذلك لن يحدث الآن لأننا لم نكتشف النار بعد، نحن المساكين الموغلون في النار والعناد».

بعد رحيل النيهوم اكتشف الليبيون النار التي يحرقون بها بلادهم منذ سنوات، فالتطرف والإرهاب والصراع على السلطة وثقافة الغنيمة وعقلية الإقصاء والرغبة في احتكار الثروة المتدفقة من تحت رمال الصحراء القاحلة والتدخلات الخارجية، كل تلك العناوين تزيد من إضرام لهب المعركة في البلاد، بينما «الرجال ما زالوا يفهمون الوطنية باعتبارها صراخا غاضبا من إهمال الدولة وحدها، وتجميع الأكاذيب المخجلة فوق أرصفة المقاهي في أيام العطلة، والجري خلال أشهر الصيف وراء مؤجري الشقق وباعة البنات على طول ساحل الفقراء مستعرضين حصيلتهم من مدخرات ليبيا، كأن تلك النقود قد جاءت بطريق العرق الشريف»، وفق تعبيره.

حتى الديمقراطية التمثيلية من خلال الأحزاب التي ظهرت في البلاد بعد 2011، انتقدها النيهوم باكرا، هو في هذه المسألة لا يختلف عن صديقه اللدود معمر القذافي الذي كان يجتمع معه في جملة أفكار، وصلت إلى حد الاعتقاد بتأثير حقيقي لكل منهما في مواقف وتجربة الثاني.

يقول النهيوم «إن الديمقراطية الحزبية ليست فكرة طرأت على عقل مفكر، بل بيئة فرضتها ظروف الثورة الصناعية، لم تكن للأوروبيين يد في اختيارها، إلا بقدر ما كانت لهم يد في اختيار جلودهم أو لون عيونهم. ورغم أن شعوبا كثيرة أخرى، قد عمدت إلى تقليدهم، فإن ذلك كان مجرد نوع من خداع البصر بوسائل الماكياج المؤقت». ولكن ما الحل؟ هو يرى أن «الشعوب لا يقتلها الاستعمار ولا تحييها الحرية، ولكنّ فرص البناء المتاحة هي التي تقرر ذلك وحدها.. وليس ثمة شك في أن الزمن أهمّ العوامل بالنسبة للبناء والهدم على السّواء». فـ«بناء المجتمع الحر يبدأ بكسر عزلة الفرد وكسب ثقته للخروج من مخبئة النفسي».

أما «الثورة فلا يحددها الشكل السياسي بل القيم الخلُقية الكامنة وراء جميع أنواع النشاط الإنساني. إنّها تحدث لكي تحقق قيما خلُقية وليس أهدافا سياسية مجردة من هذه القيم، لكن تاريخ الثورات يشير بوضوح إلى أن الثورات احتواها دائما هدف سياسي ما وسخرها لخدمته حتى أُفرغت الثورة نفسها من محتواها الخلُقي في خدمة أغراضها السياسية».
إن نبوءات النيهوم قبل عقود هي التي جعلته يشير إلى «أن ليبيا تحتاج إلى مدارس ولكنها تحتاج أكثر إلى حوار طويل ومتزن يتناول معظم بديهياتنا بالنقاش، يتناول سلطة الرجل وسلطة الفقيه وسلطة كبار السن». هذا الكلام موجه بالأساس لفهم طبيعة مجتمع ذكوري، محكوم بثقافة دينية مزورة، وبسلطة قبلية لم تخرج من قمقم التاريخ الملوث.

كان النيهوم نبتا بريا من أرض ليبيا المهيّأة عبر التاريخ لإنتاج المواهب بكل أشكالها الإيجابية والسلبية، وكان منذ بداياته متمردا على السلطة بكل عناوينها، لكن ارتباطه بالبلاد كان واضحا حيث يخاطب أبناء وطنه قائلا «الوطن ليس قطعة الأرض وحدها».

، وإذا كانت ظروفي المعقّدة قد قررت مصير ارتباطي بالأرض، فأنا لا أعتقد أن ذلك يعني اقتلاعي من تراب ليبيا، فأنا جزء منكم ولا أستطيع أن أنسى ذلك حتما إذا أردت أن أنساه». لكنه يشير بشيء من القسوة إلى الواقع بالقول «إن مستوانا الخلقي مثل بقية مستوياتنا لا يزال متأخرا رغم كل النوايا الطيبة.والمرء يستطيع أن يلتقط مليون نموذج من ليبيا لتأكيد هذه الحقيقة حتى يصاب بالقيء، فقد ساعدت ظروف الرخاء على إبراز ملامح النماذج إبرازا هائلا لا تتخطاه العين، والرخاء اختبار قاس فشل شعب ليبيا في اجتيازه حتى الآن».

ولكن هل للفكرة أن تغير الواقع في بلاد العرب، هنا يقول النيهوم «الزعم بأن تغيير المجتمع رهن بتغيير أفكاره، نظرية فقهية ثبت بطلانها منذ عصر ماركس على الأقل لم يكن بوسعها أن تقدم للعرب حلا آخر، سوى أن تربطهم إلى عالم ما قبل الثورة الصناعية، وتورطهم في دعوات عقائدية متطرفة، على يد جيل بعد جيل من الأنبياء الجدد.

ولعل التاريخ ما زال يخبئ للعرب أكثر من مفاجأة غير سارة، لكن محنتهم خلال حرب الخليج، سوف تظل شاهدا كافيا على أن مئتي سنة من خطب الوعظ والإرشاد، لم تنجح في وقايتهم من شر شيطان واحد. إن تجاهل التاريخ، خطيئة عقابها أن يتجاهلك الواقع، فالعرب الذين يتوجه إليهم الدعاة بالخطاب، ليسوا في وضع يسمح لهم بالإنصات أصلا. إنهم -مثل ركاب طائرة مخطوفة- أمة لا تملك حق الاختيار، ولا تستطيع أن تقرر مصيرها، وليس بوسعها أن تستفيد من أيّ دعوة أخرى، سوى تحريضها على استعمال الحيلة، للخلاص من خاطفيها بأي ثمن، وفي أقرب فرصة ممكنة».