الحبيب الأسود يكتب:
شجرة الغاف تظلل بأساطيرها ماضي الهند وحاضرها
شجرة الغاف تظلل ماضي وحاضر بعض الشعوب بالقدسية فدارت حولها القصص والحكايات من قديم الزمان، من ذلك من دفع رأسه ثمنا لعدم قطعها، وكانت وراء تشكيل حركات للدفاع عن البيئة، وهي إلى اليوم تمثل غذاء للإنسان وسدا لزحف الصحراء في بعض المناطق الهندية.
شجرة الغاف تظلل ماضي وحاضر بعض الشعوب بالقدسية فدارت حولها القصص والحكايات من قديم الزمان، من ذلك من دفع رأسه ثمنا لعدم قطعها، وكانت وراء تشكيل حركات للدفاع عن البيئة، وهي إلى اليوم تمثل غذاء للإنسان وسدا لزحف الصحراء في بعض المناطق الهندية.
منذ آلاف السنين تعتبر غراسة الأشجار جزءا من التقاليد الهندية المجيدة، انطلاقا من منظور ديني وعقائدي، ومن بين تلك الأشجار شجرة الغاف ولها أسماء أخرى متعددة، حيث يعتقد أن زراعة هذه الشجرة في المنزل تجلب بركات الآلهة، وتحمي أهل الدار من غضب إله العدالة شاني الذي يرمز إلى كوكب زحل.
وتعتقد الميثولوجيا الهندوسية أنه من يحاسب جميع الناس على ما أقدموا عليه من أعمال في الحياة الدنيا، سواء كانت خيّرة أم شريرة.
ويعتقد السكان المحليون في ولاية راجستان الهندية، أن هناك من الآلهة من يقيم فوق الشجرة، وهناك قانون يقضي باعتماد أوراق شجرة الغاف في عبادة الأم دورغا، وتعني بالسنسكريتية التي لا تقهر أو التي لا يمكن الوصول إليها، وهي الآلهة العليا في الهندوسية.
ومن الأفضل أن تغرس الشجرة في الركن الشمالي الشرقي من المنزل، حيث تتم عبادتها بانتظام عبر إضاءة مصباح زيت الخردل تحتها وتلاوة الصلوات التي تحمي أصحابها من الردة العكسية لكوكب زحل.
وفي الأساطير الهندوسية تعتبر تلك الشجرة قوية جدا، حيث تتم عبادتها بعد الانتصار على الملك الخبيث لانكا من قبل الإله الهندوسي والبطل الأسطوري راما الذي تنسب إليه ملحمة “الرامايانا” إحدى أبرز ملحمتين لدى الهندوس، وهو زوج سيتا، وقد استطاع إنقاذها بمساعدة الإله القرد هانومان من الشرير راون وله قصص كثيرة يقدسها الهندوس ومازالت مشهورة حتى زمننا هذا في الهند.
وهناك أيضا تقاليد عبادة شجرة الخجري بعد طقوس حرق الشيطان رافانا على يد البطل دوسيهرا في آخر المهرجان السنوي الذي ينتظم لمدة تسعة أيام في النصف الأول من شهر أكتوبر احتفالا بالآلهة نافاراتري.
وتروي الأساطير الهندية أن جماعة الباندافاس خبأت أسلحتها بين أغصان تلك الشجرة، وهي في طريقها إلى المنفى بعد حربها مع الكاورافاس، كما ورد في المهابهاراتا، أطول الملاحم الإنسانية المكتوبة، حيث تتجاوز 74 ألف بيت شعري ومليونا و800 كلمة، ويعود تاريخ نصوصها الأولى إلى المرحلة الفيدية في القرن الثامن قبل الميلاد، فيما أخذت شكلها النهائي في العصر الغوبتي في القرن الرابع الميلادي.
وتدور أحداث الملحمة حول صراع مرير ومعارك دامية بين فرعين من نسل بهارتا الملك الهندي العظيم؛ هما الكاورافاس والباندافاس، حيث تولى الحكم دريتاراشترا، الأب الأول لفرع الكاورافاس، لكنه أصيب في فترة من حياته بالعمى ليتنازل عن العرش لأخيه بادو، الذي جاء من نسله جماعة الباندافاس، لكنه سيصبح لاحقا راهبا زاهدا ليعود الحكم لأخيه، ليحتد الصراع بين أبنائهما حول من يخلف في الحكم، فينتهي الأمر بنفي أبناء بادو الأخوين من المملكة، ما يضطرها إلى اللجوء إلى مملكة مجاورة.
منذ العام 1943 تعتبر الغاف الشجرة الوطنية لدى أهل ولاية راجستان الهندية الذين يطلقون عليها اسم خجري، وكذلك اسم شامي، واحتلت مكانة مهمة لديهم منذ أن تم اكتشافها في صحراء ثار التي تعرف بالصحراء الهنديّة العظيمة.
في عام 1730، شهدت قرية صغيرة تقع على بعد 26 كم جنوب شرق جودبور في راجستان، أول وأكبر حركة لحماية البيئة في تاريخ الهند، عندما وهبت أمريتا ديفي من قرية خجرلي وبناتها الثلاث الصغيرات أسو، راتني وبهجو، أرواحهن لحماية أشجار الغاف المقدسة من جور حاكم مروار المهراجا أبهاي سينج الذي أمر بقطع تلك الأشجار لاستعمال حطبها في حرق الجير الذي كان سيخصص لبناء قصره الجديد في القرية.
احتجت أمريتا ضد رجال الملك انطلاقا من أن المساس بشجرة الغاف محظور في عقيدة البيشنوي، فأخبرها زعيمهم بأنهم قد يتخلون عن قطع الأشجار المقدسة مقابل تمكينهم من رشوة، لكنها رفضت ذلك بقوة، وأكدت أنه لا يمكنها القبول بذلك، بل ستعتبره عملا من أعمال الخزي والإهانة لقيمها الدينية، مؤكدة أنها تفضل التخلي عن حياتها لإنقاذ أشجار الغاف، ثم رفعت صوتها بكلمات حزينة تحولت بعد ذلك إلى أغنية شهيرة “أن أحافظ على هذه الأشجار مقابل رأسي، فالأمر يستحق”، ثم دفعت برأسها إلى المنشار المجلوب لقطع الأشجار ليتم اقتلاعه من جسدها، ومثلها فعلت بناتها أسو وراتني وبهجو دون تردد.
ألهم موقف أمريتا ومشهد الرؤوس المفصولة عن الأجساد الحاضنة للأشجار، أفراد المجتمع المحلي الآخرين، فضحى ما مجموعه 363 شخصا بأرواحهم خلال الأيام اللاحقة، وهم يحاولون إنقاذ الأشجار عن طريق احتضانهم إياها وتمسكهم بجذوعها، بينما قام رجال الحاكم بتقطيع أجسادهم بالفؤوس.
ووفق تفاصيل الحادثة، فإن المسنين هم الذين تقدموا أولا للدفاع عن الأشجار، فضحك قائد قوات الحاكم منهم، وهم يتساقطون مضرجين في دمائهم، ظنا منه أن أهاليهم هم من يدفعون بهم إلى ذلك الموقف بقصد التخلص منهم، لكنه فوجئ بعد ذلك بالكهول والشبان والفتيات، وحتى الأطفال وهم يتدافعون للارتماء على جذور الأشجار، يفتدونها بالأرواح، وبعد حفلة الدفاع التراجيدية الدامية، غادر رجال الحاكم المكان دون إتمام مهمتهم، وأخبروا المهراجا سينج بأطوار الحادثة، فدعاهم إلى التوقف عن قطع الأشجار المقدسة.
الدافع وراء تلك التضحية، هو أن طائفة البيشنو التي تعيش في ولاية راجستان، تحافظ منذ قرون على النباتات والحيوانات إلى حد التضحية بحياتها من أجل حماية البيئة.
بالنسبة لهؤلاء الأشخاص المحبين للطبيعة، تعد حماية البيئة والحياة البرية والنباتات جزءا لا يتجزأ من تقاليدهم المقدسة، والفلسفة الأساسية لهم، هي أن جميع الكائنات الحية لها الحق في البقاء على قيد الحياة وتقاسم جميع الموارد.
في القرن الخامس عشر، كانت لدى سانياسي أحد سكان قرية بالقرب من جودبور، رؤية مفادها أن سبب الجفاف الذي ضرب المنطقة والصعوبة التي أعقبتها هو تدخل الناس في الطبيعة.
بعد ذلك، أصبح سانياسي رجلا مقدسا وأصبح معروفا باسم المهراجا سوامي جامبيشوار، وعلى يديه كانت بداية طائفة بيشنو، عندما وضع 29 وصية دينية لأتباع عقيدته تضمنت حظرا على قتل الحيوانات، وحظر قطع الأشجار، وخاصة شجرة الغاف التي تنمو على نطاق واسع في هذه المناطق، حتى أن هندوسا أشداء يكتفون بدفن موتاهم حتى لا يضطروا إلى قطع الأشجار لحرقهم.
وفي المناطق البرية الخاضعة للبيشنو تحافظ الطبيعة على بكارتها، وتعيش الحيوانات وخاصة الظباء في الغابات دون أن تخاف البشر، بل أصبحت هاته الحيوانات تتغذى على أيدي القرويين في صورة مذهلة.
ويقول السكان المحليون لقد تم إنقاذ شجرة من فأس من كان ينوي اقتلاعها على حساب رأس من ضحى في سبيلها.
وتحولت تضحيات أمريتا وبناتها وأهل قريتها قبل حوالي 290 عاما، إلى الدافع الرئيسي وراء ظهور حركة تشيبكو التي تسمى أيضا تشيبكو أندولان، وهي حركة اجتماعية وبيئية غير عنيفة يديرها القرويون في أرياف الهند، تتكون خاصة من النساء منذ السبعينات من القرن الماضي بهدف حماية الأشجار والغابات.
وقد نشأت الحركة في منطقة جبال الهيمالايا في ولاية أوتار براديش (في وقت لاحق أوتارانتشال) في 26 مارس 1974 وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء جبال الهيمالايا الهندية.
وتعني كلمة شيبكو الهندية “العناق” أو “التشبث” وتعكس تكتيك المتظاهرين الأساسي المتمثل في احتضان الأشجار لإعاقة الحطابين.
ويعتبر خبير البيئة سوندرلال باهوغونا (92 عاما) الأب الروحي لحركة تشيبكو التي سرعان ما تبناها ودافع عنها بكل قوة، فهو صاحب تاريخ طويل في اتخاذ المواقف الوطنية والإنسانية، بدأ الأنشطة الاجتماعية في سن الثالثة عشرة.
وكان ناشطا في حزب المؤتمر بعد أن ساهم بدور مهم في تعبئة الناس ضد الاستعمار البريطاني قبل عام 1947، كما تبنى مبادئ المهاتما غاندي في حياته وتزوج من حبيبته فيملا بعد أن اشترط عليها أن يعيشا بين سكان الريف، ثم تجول في غابات وتلال الهيمالايا التي تغطي أكثر من 4700 كيلومتر سيرا على الأقدام، ولاحظ الأضرار التي ألحقتها مشاريع التنمية الضخمة بالنظام البيئي الهش في تلك المناطق والتدهور اللاحق بالحياة الاجتماعية في القرى.
لقد ألهمت حركة تشيبكو في ما بعد حركة آبيكو في ولاية كارناتاكا، وكانت إحدى مساهمات سوندرلال باهوغونا البارزة في هذه القضية، ابتكاره شعار الحركة وهو “البيئة هي اقتصاد دائم”، ومساعدته في تعزيز الحركة من خلال مسيرة عبر الهيمالايا بطول 5000 كيلومتر تم القيام بها من 1981 إلى 1983، حيث سافر من قرية إلى أخرى، وجمع الدعم للحركة، كما التقى في العام 1980 مع رئيسة الوزراء آنذاك أنديرا غاندي ليقنعها بقرارها المتمثل في إعلان الحظر على قطع الأشجار الخضراء.
وقاد باهوغونا كذلك حركة الاحتجاج ضد سد تهري الذي كانت الحكومة تنوي بناءه في المنطقة، وأضرب عن الطعام على ضفاف نهر بهجرياتي في عام 1995، لمدة دامت 45 يوما ليتوقف بعد أن أكد له رئيس الوزراء آنذاك فيف ناراسيمها راو، أنه قرر تعيين لجنة مراجعة للتأثيرات البيئية للسد.
بعد ذلك استمر في صيام طويل آخر لمدة 74 يوما عند النصب التذكاري لزعيم الأمة غاندي، وكان ذلك في العام 1996 خلال فترة ولاية رئيس الوزراء هاراداناهالي دوده ديفي كودا الذي تعهد شخصيا بمراجعة المشروع.
لكن على الرغم من القضية المرفوعة أمام المحكمة العليا والتي استمرت لأكثر من عقد من الزمن، استؤنفت الأعمال في سد تيري في عام 2001، وتم إلقاء القبض على باهوغونا في 20 أبريل 2001.
وفي نهاية المطاف، بدأ ملء خزان السد في عام 2004، وفي 31 يوليو من العام نفسه تم نقل باهوغونا إلى مكان إقامة جديد في كوتي، وفي وقت لاحق انتقل إلى دهرادون عاصمة ولاية أوتراخاند.
وعرف عن باهوغونا دفاعه العاطفي عن شعب الهيمالايا، حيث كان يعمل من أجل الاعتدال ومن أجل مساعدة أبناء الأرياف وخاصة النساء، كما كافح أيضا للدفاع عن أنهار الهند.
تعرف شجرة الغاف بأسماء مختلفة في المناطق الغربية والشمالية للهند، مثل شامي في ماهاراشترا، وجامي في تيلانجانا، وخيجرو في غوجارات، وخيجري في راجستان، وجانتي في هاريانا، وجاند في البنجاب. في عام 2015، أصدر معهد بحوث المناطق القاحلة المركزي تقريرا يفيد بأن متوسط أشجار الغاف في 12 منطقة جافة في ولاية راجستان قد انخفض بأقل من 35 بالمئة في الهكتار، وذلك بسبب عوامل مثل انخفاض مستوى المياه الجوفية والأمراض الفطرية والقطع العشوائي.
هذا الأمر يسبب ألما وحزنا في حياة شعب ولاية راجستان، حيث تم اختيارها الشجرة الرمز للولاية في العام 1953 لقداستها من قبل الكثيرين، فقبل القيام بأي عمل جديد مهم، يؤدي السكان المحليون طقوسهم الدينية تحت تلك الشجرة.
وهناك أهمية اقتصادية وبيئية كبيرة أيضا للشجرة، حيث تلعب دورا حيويا في الحفاظ على النظام البيئي لمنطقة ثار الكئيبة بسبب قدرتها على البقاء في مثل هذه الظروف الصعبة والطرق المختلفة التي يمكن استخدامها من قبل المزارعين.
وبصرف النظر عن كونها مصدر الحطب والأعلاف، فإن شجرة الغاف تساعد أيضا في الحفاظ على القيمة الغذائية للتربة والظلال لعابري الصحراء وضمان الحصول على إنتاج جيد.
وتسمى ثمرتها سانجري، كما يطلقون عليها اسم الفاصوليا الخضراء.
ويقولون إنه إذا لم يتم كسر هذه الفاصوليا الخام، فإنها تبدو لذيذة للغاية بعد الطهي، وتستمر الحبوب الناضجة المجففة لفترة طويلة بعد أن تتساقط على الأرض تلقائيا بفعل الرياح، ويطلق عليها أهل راجستان اسم خوخا، وتعتبر قشور جذع الشجرة طعاما غنيا ولذيذا، وخشبها قويا ومؤثرا في حياة المزارعين لصناعة الأثاث والأدوات الفلاحية التقليدية.
أما لحاء الشجرة، فله خصوصيات طبية لعدد من الأمراض، إذ يفيد في تهدئة آلام الصدر وحرارة المعدة، أما الأزهار، فعادة ما تكون غذاء للنحل لينتج أرفع أنواع العسل، وعندما يتم تناولها مع السكر فإنها تمنع الإجهاض لدى النساء الحوامل.