د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

السلاطين ووحدة الجنوب (3-4)

من المفارقات العجيبة أن الجنوب العربي كان يحكمه أكثر من 20 سلطانا وأميرا وتسكنه قبائل شرسة تحمل السلاح كجزء من موروثها القبلي والاجتماعي.. وتثور على الحكام بين الحين والآخر مما ساعد على تمزقها وتوسع خلافاتها،وكانت نقاط الضعف في إمارات الجنوب العربي كما يلي :
-أنها كثيرة العدد ومجزأة وان جمعها كيان واحد تحت مسمى اتحاد الجنوب العربي ولكل إمارة حكمها الذاتي الخاص .
-انتشار التمرد القبلي في معظم الإمارات الجنوبية ودعمه من قبل الإمام بحجة محاربة الاحتلال البريطاني .
-عدم الاتفاق على رئيس للاتحاد وعدم وجود إمارة غنية تقود الاتحاد وتتحمل عبء ميزانيته مثل أبو ظبي التي تتحمل ثلثي ميزانية الإمارات العربية المتحدة.
-نشوب النزاعات المسلحة بين بعض الإمارات بين الحين والآخر على الحدود والأراضي وكل يدعي أنها تابعة له .
-ضعف الإيرادات المالية وبالكاد تغطي إيرادات البعض منها مصروفاتها .
-تعمد بريطانيا عدم التنقيب عن النفط رغم معرفتها بوجوده في شبوة وحضرموت .
-الحرب بين الملكيين والجمهوريين في اليمن وتدخل المصريين وتمدد الثورة ضد الانجليز ثم تآمرهم لإسقاط حكومة الاتحاد لصالح الجبهة القومية وبمساعدة الجيش والأمن .
في حين كانت سلطنة عمان تحكم تاريخيا من قبل سلالة من سلاطينها كان آخرهم "آل أبو سعيد" ومنهم السلطان قابوس بن سعيد .
كان سلاطين عمان يملكون أسطولا بحريا قويا وقد اهتموا بالفتوحات التي امتدت إلى سواحل الهند وشرق أفريقيا وحكموا أجزاء منها ( زنجبار ) المنضوية اليوم في تنزانيا ولازالت شواهد حضارتهم ظاهرة للعيان فيها .استطاع سلاطين عمان توحيد البلاد منذ القدم في دولة مركزية واحدة عاصمتها (مسقط ) وكانت تغلق أبوابها في العاشرة ليلا وتضاء القناديل في أزقتها ويمنع التجول ليلا إلا لمن يحمل قنديلا ومن نوع واحد وللمخالف السجن !.
في عمان كان كل شيء ممنوعا والمصرح به استثناء والضرائب تصل إلى 300% وكانت ظفار تشكل حوالي ثلث مساحة عمان وكان لها النصيب الأكبر من الجهل والفقر والمرض والعزل والمنع وبدأ الشعب العماني يتذمر بسبب الظلم الذي كان يمارسه السلطان سعيد بن تيمور عليهم وسؤ الأحوال المعيشية وكان جزء كبيرا منهم يعمل في دول الخليج فبدا تأثرهم بالخطاب الناصري منذ حرب السويس عام 1956 م وبدأ شبابهم في التعامل مع حركة القوميين العرب عام 1959 م وصعود المد القومي العربي بعد الوحدة المصرية – السورية ومن ثم قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962 م في اليمن وثورة 14 أكتوبر عام 1963م في الجنوب وتدخل القوات المصرية في الحرب الأهلية اليمنية حتى عام 1967م ساعد ذلك كله على التمدد الروسي – الأمريكي في المنطقة بعد حرب السويس.. وقامت ثورة ظفار عام 1965 م برغم فشل مشروع الوحدة القومية العربية بين سوريا ومصر وفشل الحفاظ على الدولة القطرية نفسها في الجنوب والعراق والسودان وليبيا وشواهد الانقلابات العسكرية خير دليل على ذلك .
وقد ارجع القوميون العرب النكسة في حرب حزيران عام 1967م إلى القوى البرجوازية وتبنت حركة القوميين العرب قيادة جديدة تعتمد على الأيدي العاملة والنظرية الماركسية التي تدعم الفلاحين والعمال في الأرياف وقد تجلى ذلك في مؤتمر ( حمرين ) وقد سيطر الثوار العمانيون في الفترة من (1965-1970م) على مساحات كبيرة من الأراضي في ظفار مما اضطر السلطان سعيد بن تيمور للاستعانة بقوات هندية وانكليزية لقمع الثورة ولكنها فشلت .
وفي سبتمبر عام 1968 م أجبرت القيادات القديمة للجبهة الشعبية على التنازل وتغيير اسم الحركة إلى : ( الجبهة الشعبية لتحرير الخليج المحتل ) وتبنت الماركسية .وقد تعرض السلطان سعيد بن تيمور للإصابة بخمس طلقات نارية !!
وازدادت خطورة الثورة العمانية خاصة في ظفار وشعر الانكليز بالخطر واجبروا السلطان سعيد على التنازل عن الحكم لصالح ابنه ( قابوس) عام 1970 م .
في الوقت الذي أقامت فيه اليمن الجنوبية قواعد للجبهة الشعبية في كل من : حوف – الغيظة – والمكلا.. كما أقامت إذاعة محلية وصحيفة .
وطلب السلطان قابوس من شاه إيران مساعدته في مواجهة الثوار فوافق على ذلك وكان طموحه أن يحل محل بريطانيا في الخليج وخوفه من تهديد أمن الحليج إذا قام نظام راديكالي في عمان لتهديد الأمن والنفط وأمده بثلاثة آلاف جندي إيراني كما ساهمت اليمن الجنوبية في دعم ثوار عمان وتحملت عبء التسليح والميزانية للثورة العمانية .
وفي العام 1975 م سيطرت القوات العمانية على سلسلة الجبال بمساعدة القوات الإيرانية وتم استعادة الكهوف الجبلية والمنطقة الساحلية حتى أصبح إقليم ظفار تحت سيطرة الحكومة العمانية .
وفي العام 1976م تمت السيطرة على الثورة العمانية وقامت دول كثيرة بمساعدة عمان ماليا وعسكريا منها إيران والسعودية والأردن وأبو ظبي فيما لم تحصل ثورة عمان إلا على دعم قليل وزهيد من بعض الدول العربية والاتحاد السوفيتي.
وتم تفكيك الثورة واستسلم العديد من قيادات الجبهة لقوات السلطنة وفي العام 1976م تمت تصفية الثورة نهائيا وتم دمج إقليم ظفار في السلطنة .
ولعل السبب الأهم في استعادة زمام الأمور يرجع إلى السلطان قابوس الذي استطاع توحيد عمان بكاملها تحت قيادته وتزامن ذلك مع سلسلة قرارات هامة اتخذها للإصلاح والتطوير في بنية المجتمع العماني منها :
- إعلان العفو العام على جميع المتمردين .
- وعد أهل ظفار بالمعاملة الحسنة ( وهم أخواله ) .
- القيام بإصلاحات اجتماعية هامة .
وقد تزامنت تلك القرارات مع خلافات قبلية في الجبهة نتج عنها إعدام 300 عضوا عام 1970 م وكانت تلك الحماقة اكبر هدية للسلطان قابوس .
وكان لإعلان السلطان العفو العام والبدء بمرحلة إصلاحية للنهوض بعمان وفق مخطط ذكي مدروس يستهدف القضاء على الثورة فقام بشق الطرق وبناء المدارس والمستشفيات والمساجد وبانتهاجه سياسية التسامح استقطب الجماهير تجاهه ونجحت سياسته في شق صفوف الثوار وتأليبها على بعضها البعض حتى خفتت قناديلها بل وانطفأت تماما .
وعم الأمن والسكون أرجاء السلطنة ورغم الفترة الزمنية القصيرة للبناء التي بدأت في عام 1970م حتى أصبحت عمان تضاهي دول الخليج الأخرى في كل الانجازات الحضارية .
د. علوي عمر بن فريد
وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والأخيرة .