إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):

قدرة الشعور على توليد الزمان وصناعة المكان

 إن التحليل الاجتماعي للعناصر النفسية المُتحركة في داخل الإنسان ، يُلغي الفرقَ بين العَالَم الواقعي والعَالَم الافتراضي، ويُوحِّد الزمانَ والمكانَ في سياق فكري واحد ، لأن الإنسان لا يتحرَّك في الحياة وفق مسار خَطِّي بسيط ، وإنَّما يتحرَّك في مسارات مُتشعِّبة معنويًّا وماديًّا ، وينتقل عبر أطوار معرفية مُعقَّدة ، كما أن مشاعره لَيست كُتلةً محدودة ومُتجانسة ، وإنَّما كُتَل كثيرة مُتعدِّدة ومُتناقضة . وكثيرٌ مِن الناس يَعيشون ويَموتون، وهُم لا يَعرِفون ما يُريدون. ويَأتون إلى هذه الحياة، ويَخرجون مِنها، وهُم لا يَعرِفون الهدف مِن وُجودهم ، ولا يُدرِكون طبيعة مسارهم ومصيرهم . وهذا يدل بوضوح على أن النَّفْس الإنسانية كيان في غاية التعقيد ، ومُتشابك مع عناصر الحياة بكل تناقضاتها وتقلُّباتها .

     وكما أن الوجود الإنسان مُوزَّع بين الضحك والبُكاء،والحُب والكراهية، والفَوز والخسارة، والنصر والهزيمة، والحياة والموت، كذلك حالته النَّفْسية مُوزَّعة بين الأضداد، ومُنقسمة بين التناقضات ، بسبب الصراع الإنساني الداخلي بين الحُلم والقُدرة على تحقيقه، والصِّدام بين الرغبة وإرادة تنفيذها. وبُنية الصراع تعني بالضرورة وُجود شظايا فكرية ، وانبعاثات معرفية يَصعب السَّيطرة عليها ، لأن بُنية الصراع في داخل الإنسان لا تقع تحت سيطرته ونفوذه، ولا يَملِك القُدرة على التحكم بها ، وتوجيه مسارها . تمامًا كالحرب ، يَستطيع الإنسانُ أن يُحدِّد موعدَ بدايتها ، ولكنَّه لا يَستطيع أن يَتحكَّم بمسارها ، ولا يَقْدِر على تحديد موعد نهايتها ، لأنَّ هناك تفاصيل كثيرة ، ومُفاجآت غَير مُتوقَّعة ، وأحداثًا مُتجدِّدة ، لم تَكن في الحُسبان . وكما يُقال : الشَّيطان كامن في التفاصيل . والإنسانُ قد يَرمي عُود ثِقاب مُشتعلًا في غابة مِن الأشجار بسهولة ، ولكنَّه لا يَستطيع أن يَعرِف مدى الحريق وانتشار النار التي ستأكل الأخضرَ واليابس .

     والحروبُ التي يَخوضها الإنسان في داخله ، والمعارك التي يَخوضها بينه وبين نفْسه ، لا يُمكن التَّنَبُّؤ باتِّجاهها ، ولا معرفة حركتها ، لأن الإنسان في هذه الحالة يَكون مَحصورًا في زاوية رَد الفِعل لا الفِعل ، ويَكون في إطار المفعول به لا الفاعل . لذلك ، تَخضع سلوكياتُ الناس الاجتماعية ، وتصرُّفاتهم في الحياة ، لمشاعرهم العميقة ، وأحاسيسهم الدَّفينة ، ومُشكلاتهم النَّفسية التي سَيطرت على اللاوَعْي مُنذ طُفولتهم ، والماضي لا يَمضي، وطُفولةُ الإنسان_ بأفراحها وأحزانها _ تنتقل مع الإنسان في كُل مراحل وجوده رَغْمًا عنه . والإنسانُ لا يَقْدِر على تجاوُز مرحلة الطفولة مهما بَلَغَ مِن العُمر ، لأنَّها راسخة في تفاصيل كيانه وأعماق وجدانه . ومَن يَعتقد أنَّ بإمكانه تجاوز مرحلة الطفولة ، كَمَن يَعتقد أن بإمكانه خَلْع جِلْده ووجهه ، والعَيش بجِلْد جديد وقِناع مُستعار . والشُّعورُ الإنساني العميق يُكَوِّن زَمَنَه الخاصَّ به ، لِكَيْلا يَقفز الإنسان في الفراغ .

     والمراحل الزمنية في حياة الإنسان ( الماضي ، الحاضر ، المُستقبل ) تُشبِه الحواجزَ العسكرية في الطريق، فهذه الحواجز موجودة، والإنسان مُجبَر على التَّوَقُّف أمامها، ولكنَّها لا تُغيِّر شيئًا في طبيعة الطريق ، ولا تُبدِّل اتجاهه. والطريق جَوهر ثابت، والحواجز أعراض زائلة، وسَوْفَ تَختفي الحواجزُ يَوْمًا ما، ويظل الطريقُ كما هُوَ . وهذا يعني ضرورة التركيز على الطريق ، لأنَّه الثابت في عَالَم التَّحَوُّلات .

     وحياةُ الإنسان هي طريقه الأساسي الثابت ، أمَّا الواقع والخيال ، فهُما عُنصران مُتغيِّران ، وخاضعان للتأثيرات الروحية والمادية . وجَوهرُ الوُجود الإنساني واحدٌ في العَالَم الواقعي والعَالَم الافتراضي ، لذلك ينبغي التركيز على هذا الجَوهر ، لأنَّه الطريق الرئيسي ، وعدم إضاعة الوقت في الطُّرُق الجانبية والشوارع الخلفية .

     وتحليلُ الوجود الإنساني لا يتأتَّى إلا بإزالة الفرق بين العَالَم الواقعي والعَالَم الافتراضي ، كَي يَرى الإنسانُ وَجْهَه في المِرْآة، بدون مِكياج ولا إضاءة خادعة ، ولا مُؤثِّرات خارجية . وقُوَّةُ الإنسان الحقيقية تَنبع مِن ذاته ، وتنبعث مِن أعماقه ، ولا تُسْتَمَدُّ مِن عناصر دخيلة ، أو إسناد خارجي .

     وكما أن الإنسان لا يَقْدِر على رؤية جسده إلا إذا خَلَعَ ثِيَابَه ، كذلك لا يَقْدِر على رؤية قُوَّته الحقيقية وإمكانياته الفِعلية ، إلا إذا خَلَعَ أقنعته ، وتخلَّصَ مِن عناصر الإسناد الخارجية ، واعتبرَ العَالَمَ الواقعي والعَالَمَ الافتراضي شيئًا واحدًا ، واعتبرَ الزمانَ والمكانَ شيئًا واحدًا ، لأنَّ العِبرة لَيست في عناصر البيئة المُحيطة بالإنسان ، وإنَّما في ذات الإنسان باعتباره كيانًا قائمًا بذاته ، يتمتَّع بالسُّلطة الاعتبارية ، وشرعيةُ حياته مُستمدة مِن حياته ، وغَير مُستمدة مِن العناصر الخارجية . والإنسانُ قد يَشعر بالفَرَح في العَالَم الافتراضي ، كما يَشعر به في العَالَم الواقعي، والنائم قد يَجِد لَذَّةً في مَنامه ، كما يَجِدها الشخص المُستيقظ في الواقع ، مِمَّا يدل على أن الشعور الإنساني هو الأساس ، وليس البيئة .

     وكثيرٌ مِن الناس يَشعرون بغُربة بين أهلهم وفي وطنهم ، مِمَّا يدل على أن الغُربة الحقيقية هي غُربة الرُّوح لا غُربة المكان . وكثيرٌ مِن الناس يَشعرون بأحلام الطفولة في مرحلة الشَّيخوخة ، وكَم مِن عَجُوز يَشعر بوجود طِفل صغير في أعماقه ، مِمَّا يدل على أن الزمان الحقيقي هو ما يُفْرِزه الشُّعور الإنساني ، وليس ما يُفْرِزه مُرور السنوات . وهذه الأمثلةُ تُشير بوضوح إلى أن الإنسان كيان قائم بذاته ، ومُستقل بوجوده وأحلامه عن العَالَم الواقعي والعَالَم الافتراضي والزمان والمكان ، وأنَّ هذه المفاهيم مُجرَّد عناصر تابعة للشُّعور الإنساني الداخلي ، الذي يُمثِّل التَّجسيد الحقيقي لمعنى الوجود الإنساني وشَرْعيته وماهيته .

     والمشكلةُ أن البَشَر المَحصورين ضِمن الأنظمة الاستهلاكية المُغْلَقَة ، يَبحثون عن السعادة في العناصر الخارجية ، ولا يُدْرِكُون أن السعادة كامنة في ذَوَاتهم وأعماقهم ، ولكنَّها تحتاج إلى عملية تَنقيب وغَوص في الأعماق ، كما يُنقِّب عُمَّال المناجم عن الذهب في التُّراب ، وكما يَغُوص الصَّياد في أعماق البحر للحُصول على اللؤلؤ .

     وبشكل عام ، ينبغي على الإنسان أن يكون كالشمس لا القمر ، لأن نُور الشمس ذاتي وأصلي ، أمَّا نُور القمر فهو مُستمد مِن نُور الشمس . وقُوَّةُ الإنسان تتجلَّى في القُدرة على الاستغناء لا الامتلاك ، وكُل شَيء تَمْلِكه فهو يَمْلِكُك بصورة أو بأُخرى . والغنيُّ هو المُستغني . والدَّوْلَةُ ( الكيان السياسي ) لا تَمِلك قرارها وسِيادتها إلا إذا كانت قائمة بنفْسها ، ومُكتفية ذاتيًّا ، وكذلك الإنسان . والخُضوع بقَدْر الحاجة ، ومَن احتاجَ إلى شيء ، كان فقيرًا إلَيه ، وخاضعًا لشروطه .