عبده فايد يكتب:
مضيق هرمز وفوردو.. الورقتان الإيرانيتان في مواجهة الهيمنة الأمريكية
يعتقد البعض أن القصف المتبادل بين طهران والعدو هو قمة الحرب، أو بالأدق أن نتائج ذلك القصف من عدد الضحايا وحجم المنشآت المدنية والعسكرية المُدمّرة هي ما سوف تُحدد الفائز والخاسر في تلك المعركة..هذا القصف على حجمه المهول ليس أكثر من مجرد تمهيد لمسرح العمليات..العدو يستعّد لتلك المعركة منذ العام 2009، وحينما أتت الفرصة لخوضها، وضعّا مقياسًا بالغ الصعوبة من أجل إعلان الانتصار..إفناء كامل البرنامج النووي والصاروخي لإيران..ولأجل ذلك أصبح جيش العدو ملزمًا بأمر واحد..القضاء على منشأة فوردو النووية..فوردو هي درّة تاج المشروع الإيراني، منشأة كاملة مدفونة في الجبال على عمق يقارب 80 متر، وتضم ألوف من أجهزة الطرد المركزي، ومن رحمها تستطيع إيران إنتاج الكمية اللازمة من اليورانيوم المخصّب من أجل صناعة قنبلتها الأولى..لكن العدو بمفرده عاجز..يحتاج إلى تدخل أميركي حاسم..
الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك القنبلة الخارقة للتحصينات التي تستطيع الوصول لأهداف على ذلك العمق..GBU 57..وهي الدولة الوحيدة كذلك التي تمتلك الطائرة القادرة على حمل تلك القنبلة التي تزن 13 طنًا..طائرة B2 الشبحية..وهذه الطائرة لا تستطيع المناورة سوى في سماوات مفتوحة حتى تتمكّن من إفراغ حمولتها، ليس مرّة بل إثنتين وثلاث وخمسة، لأن أقصى عمق لقنابلها هو 60 مترًا وتحتاج للحفر بشكل أعمق، إذا ما أرادت القضاء على فوردو..ومن هنا فقط تخوض قوات العدو معركتها الحالية بهدف واحد..تمهيد الأرض الإيرانية عبر تحييد الدفاعات الجوية، حتى تتمكّن واشنطن من تفكيك فوردو والعودة سالمةَ بطائراتها إلى قاعدة دييجو جارسيا في المحيط الهندي.من فوردو تحديدًا تبدأ الحرب التي قد تغيّر وجه الشرق الأوسط بصورة عكس ما يتمناها العدو..
لم تكن إيران أول دولة خططت أميركا لاستهداف برنامجها النووي..سبقتها كوريا الشمالية..مساء الخامس عشر من يونيو عام 1994 استدعى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون كُلًّا من وزير الدفاع وليم بيري ورئيس هيئة الأركان المشتركة جون شاليكاشفيلي إلى مكتبه في البيت الأبيض..كانت التطورات في كوريا الشمالية خبرًا صاعقًا للجميع، إذ علمت وكالة الاستخبارات المركزية بنيّة بيونج يانج نقل بعض قضبان الوقود النووي، والتي تحوى كمية من البلوتونيوم تكفي لإنتاج خمس أو ست قنابل نووية، من مفاعلها البحثي في يونجبيون إلى جهة غير معلومة..كان ذلك أكثر من كاف لكلينتون لكي يُقرّر خوض الحرب..حشدت واشنطن في أيام 1.1 مليون جندي في الجارة كوريا الجنوبية، بواقع 500 ألف جندي أميركي و 600 ألف جندي كوري جنوبي فضلًا عن 37 ألف جندي متمركزين في القواعد الأميركية في اليابان، وتأكّدت من وجود ما يكفي من مخزونها من الذخائر الذريّة في العاصمة الكورية الجنوبية سيول..
كانت واشنطن تعد العدة لضربة ساحقة..لكنها لم تُجرؤ على إطلاق العملية أبدًا..رصدت كوريا الشمالية التحركات الأميركية وأرسلت عبر موسكو رسالة مفادها أنه في حال استهداف طموحها النووي فلن يسعها سوى النيل من كل أميركي وكوري جنوبي يقع تحت يديها..بل أرسلت كشفًا مبدئيًا بالخسائر التي تعتزم إحداثها في صفوف أميركا وحلفائها..52 ألف جندي أميركي في قواعدهم ومليون كوري جنوبي من المدنيين، فضلًا عن إغلاق كل ممرات التجارة في بحر الصين الجنوبي والشرقي وهو ما سيؤدي لخسائر في الاقتصاد العالمي بقيمة تريليون $..لأول مرة أصبحت الولايات المتحدة تعلم أن كوريا الشمالية لا مانع لديها في الفناء إن كان الطرف الآخر سيتكبّد خسائر لن يمحوها الزمان..
لماذا تحكي قصة كوريا الشمالية؟..لأنه ببساطة تتوافر لدى إيران نفس ميّزة الجغرافيا التي تجعل الولايات المتحدة حتى الآن حذرة من أي تدخّل..تستطيع إيران حال تدخل الولايات المتحدة الأميركية تحويل العالم كلّه إلى قطعة من جهنّم..أول ما تستطيع فعله هو القواعد الأميركية في الخليج العربي وبحر عمان والمحيط الهندي وحتى دول مجلس التعاون الخليجي مثل قطر والإمارات والبحرين والكويت..هناك يتمركز قرابة 100 ألف جندي أميركي سوف يصبحون هدفًا إيرانيًا حال ما قرّرت طهران معاقبة العالم بأسره..تلك خطوة متقدّمة سوف يسبقها بلا شك إغلاق مضيق هرمز وتفخيخه وهي استراتيجية تدربّت عليها إيران جيدًا منذ الحرب العراقية، وتعلم حينئذ أن ضغط المعركة سوف يرتد إلى كل بيت في الكوكب، حينما ترتفع أسعار النفط بصورة جنونية، لأن مضيق هرمز يتحكّم في نقل 40% من إنتاج النفط العالمي..
ليس هذا فحسب..بل ما يزال هنالك خيار الفوضى المطلقة إذا ما توسعّت واشنطن في طموحها وسعت إلى إسقاط النظام الإيراني..هنا لن تجد إيران بدًا من استعادة ماضيها القريب نفسه، حينما أطلقت خلايا الشيرازيين في دول الخليج، في الكويت والسعودية تحديدًا من أجل استهداف المصالح الأميركية..كل تلك الخبرة والقوة البشرية الإيرانية تستطيع تجميع نفسها في هيئة خلايا قادرة على تأليب الإقليم المجاور لها لسنوات طويلة قادمة..وهنا نتحدث عن قرابة 80 مليون إيراني سوف يشكّل غياب السلطة وتوافر الذخيرة عاملًا حفازًا لهم للانتشار بقوة تدميرية هائلة في المحيط..تلك هي المعركة الحقيقية التي يقف العالم منتظرًا لها ومرعوبًا منها..وما دونها ليس أكثر من ضجيج نيراني يُمكن احتوائه..
إيران أدارت الصراع حتى اللحظة بدرجة هائلة من الثبات والذكاء مجتمعين..كان بمقدورها استنزاف بنك أهدافها بدوافع الثأر منذ الدقيقة الأولى..لكنها اختارت حصر الصراع في أراضينا المحتلّة، رغبة في عدم استدعاء واشنطن للصراع في تلك البدايات المبكّرة..وربما يعتقد البعض أنها تسعى لإطالة أمد الحرب..لا..بل الوصول إلى اتفاق سلام حول برنامجها النووي مع الولايات المتحدة..اتفاق هدنة لالتقاط الأنفاس حتى لو تأخّر برنامجها لأعوام قليلة قادمة..كوريا الشمالية سبقتها في ذلك بالمناسبة..في نفس عام خطة كلينتون لضربها، تعرّضت بيونج يانج إلى مجاعة مرعبة أسفرت عن وفاة ما يُقارب 3 ملايين كوري شمالي..حينها لم يجد الزعيم كيم إيل سونج بدًا من الاتصال بالأميركيين واستقبال مندوبًا عنهم لأول مرة في تاريخ الصراع بين البلدين وكان هو الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر..
بموجب الاتفاق قبلت كوريا الشمالية إغلاق مفاعل الخمسة ميجاوات ومصنع إعادة معالجة الوقود، كما أوقفت العمل في بناء مفاعلي 50 و200 ميجاوات، وتعهدَّت بفتح منشآتها النووية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية..في مقابل ذلك تعهدت واشنطن ببناء مفاعلات نووية متطورة تعمل بالماء الخفيف، بهدف توليد بلوتونيوم أقل مما ينتجه النوع الجرافيتي، وبالتالي تحجيم قدرة كوريا الشمالية على إنتاج الأسلحة النووية مستقبلًا، على أن تتكفَّل كوريا الجنوبية ب 70% من إجمالي تكلفة تلك المفاعلات..إضافة إلى ذلك تبادلت واشنطن وبيونج يانج فتح مكاتب اتصال للمرة الأولى، على أن تتركَّز مهمتها الأساسية على تخفيف الحظر التجاري على كوريا الشمالية وإمدادها بالوقود خلال عشر سنوات قبل التفكيك الكامل للبرنامج النووي..صفقة مدهشة لواشنطن..لكن في السنة الرابعة لها..انسحبت كوريا الشمالية من ذلك الاتفاق الإطاري بعد مناورة بارعة..كانت بالفعل قد امتلكت القدرة على إنتاج القنبلة النووية..
قد يبدو هذا نبأً جيدًا..حتى لو إيران قبلت بالتوقيع على اتفاق مع واشنطن، يُمكنها التراجع عنه لاحقًا، واستكمال برنامجها سرًا..فلتناور إيران إذن لو ضاقت عليها ساحة المعركة؟..للأسف هذا خيار غير متاح..لأن الولايات المتحدّة تعلّمت الدرس الكوري الشمالي جيدًا..ولن تقبل بتوقيع اتفاق نووي يسمح لإيران بالتقاط الأنفاس وإعادة استكمال برنامجها النووي ولو بصورة أبطء..وما تطرحه واشنطن ليس سوى الاستسلام الكامل دون قيد أو شرط..استسلام كما تقول أنباء مسرّبة يضمن وجود قوات أممية في المواقع النووية، بل وحتى النص على حق الكيان ومن خلفه أميركا على استهداف غير مشروط لكل ما يعتقدون أنه عملية إحياء للطموح النووي..بمعنى آخر..التسوية الأميركية تعني في المقام الأول والأخير..قبول طهران بشروط أقرب لما وافقت عليه ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى في تسوية فرساي..تفكيك كامل القدرة العسكرية تحت إشراف دولي مع فتح السماء والأرض أمام القوات الغازية من أجل محو إيران نفسها..تلك المرة محوًا بطيئًا مؤلمًا..
ترامب من حيث لا يحتسب وضع هو الآخر سقفًا شديد الصعوبة للانتصار..إما هزيمة عسكرية شاملة لإيران أو استسلام سياسي غير مشروط..ولو حدث عكس أحد الأمرين..لكانت هزيمة مدوية للولايات المتحدّة حتى لو تكلفت إيران مليون ضحية ومليار مبنى مهدّم..ما يصعب الجولة المقبلة من الحرب هو تلك المعادلات الصفرية لأميركا ووكيلها الإقليمي..كأن تغلق كل منافذ الهرب أمام أسد جريح وتتوقّع منه ألا يلتهمك حيًا..ما يُقلق في المرحلة القادمة أن واشنطن لم تترك منفذًا كريمًا لإيران لإعادة التموضع أو لحماية موقعها كقوة إقليمية مائزة..بل هي غارة استعمارية مكثّفة هدفها الأوحد إخضاع إحدى أكبر قوى المنطقة..وفي مثل تلك الحالات تبدو المقولة المصرية الشعبية ‘‘عليّا وعلى أعدائي‘‘ هي الأقرب للتحقّق..
كانت أحلام العدو وحلفائه العرب منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 تتلخص في أمر أوحد..شرق أوسط جديد خال من المنغصات المبادئية..عالم تسوده التبادلات على الجانبين..يأخذ العدو أموال النفط ويُعيدها للخليج حماية أمنية..يحصل على التبادل الدبلوماسي مع دول شمال إفريقيا ويردّه جولات سياحية من زوائده البشرية..يحصل على الصمت المصري الأبدي مقابل اتفاقات الكويز والغاز..ويمتلك ناصية المساومة مع دمشق وعمان على قاعدة المياه مقابل السلام والأرض مقابل عدم توجيه المدافع صوب صدور أبناء المشرق العربي..وما بدا كحلم خالص لشيمون بيريز عبّر عنه في كتابه الشهير ‘‘ الشرق الأوسط الجديد‘‘ انقلب غمًا عليه وعلى الأميركيين من القطاع والجنوب اللبناني ومن الخلف طهران..اكتشف العدو لأول مرة أن ياسر عرفات الذي استسلم وخان أمته لم يكن سوى قمة جبل الجليد التي تختفي ورائها تيارات تنتظر فقط فرصة لاستكمال الحلم والمشروع غير مهادنة ولا مستسلمة..واستلزم الأمر قرابة خمسة وثلاثين عامًا لتفكيك الطوق الحديدي حول العدو..في القطاع والجنوب وها هو الآن يستعد لنيل غنيمته الكبرى..إيران..ولو تمكّن منها..لنجح بالفعل في تحقيق حلمه التاريخي..
الحلم بإقامة شرق أوسط جديد يحكمه طيران العدو..وتلك المرّة لن يُترك هامش للعرب لاختيار نمط شراكتهم كما كان في السابق..قالها رئيس وزراء العدو قبل أربعين عامًا إبان كان طالبًا يدرس الهندسة في أرقى جامعات الولايات المتحدة ويستغل وقت فراغه في الترويج لنفسه في الدوائر الحكومية ومحطات التلفزة الأميركية كزعيم مقبل..لا حل مع العرب سوى فرض السلام بالقوة المفرطة والهيمنة المطلقة..سيحرص تلك المرة على أن يستغل فائض الخوف المبني في نفوس العرب لتحقيق ردع هائل، تُفتح بموجبه السماوات والأراضي العربية أمام موجة من النهب الاستعماري لم يسبق لها مثيل..
هذا هو السيناريو الأول الكابوسي الذي سوف تّسفر عنه الحرب الإيرانية..بيد أن هناك سيناريو أكثر كابوسية ونسخة من شرق أوسط جديد أكثر رعبًا..لكنه تلك المرّة ليس على مزاج رئيس وزراء العدو وحلفائه العرب..سيناريو أن يُضرب الكبرياء الإيراني في الصميم، بالنيل من منشأة فوردو، فتلجأ طهران لحرب الكل ضد الكل..وقتها لا أمان لناقلة نفط، ولا ملجأ لجندي أميركي في قاعدته، ولا رغد العيش لأبناء دول مجلس التعاون الخليجي الذين ظنّوا أنهم سيبنون رخاءهم على شقاء جيرانهم..وقتها ستعلم واشنطن أن فراغ القوة الإيرانية سوف يفتح الباب أمام جبره من كيانات أكثر غضبًا وفتكًا، وأن الرمزية الإيرانية من حيث أريد لها أن تسقط، ستكون حاضنة لتجميع أبناء التيارات خصوصًا الإسلامية الحركية منها متجاوزة خلافاتها التاريخية السنية - الشيعية..
وإن كان العدو يتألم من صواريخ تحتاج لقطع 2000 كم في السماء وتستعد لها منظومات دفاع جوي هي الأكثر تقدمًا في العالم..فلن يكون ذلك أي شيء، حرفيًا، أي شيء، إلى جوار الألم الأميركي في القواعد المتناثرة في مياه عمان والمحيط الهندي ومنصات النفط الخليجية، بأطنان من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، والتي تمتلك منها طهران مخزونًا بمئات الألوف..هذه حرب سوف تنتهي لا شك..لكنها حينما تفعل..فلن يعود الشرق الأوسط ولا سكانه بعدها كما كانوا من قبل..منطقة إما خانعة تحت سوط وكيل الاستعمار الأبيض، وإما ثائرة ملتهبة فوضوية، بحيث لن تنجح كل مياه الخليج العربي في إطفاء لهيبها..وإن كنت تحسب أن تلك الرشقات هي الحرب..لا يا عزيزي..الحرب لم تبدأ أصلًا بعد.