صالح القلاب يكتب:

إردوغان يريد تركيا دولة مشكلات بانتظارها استحقاقات كثيرة!

مرَّ حتى الآن قرنٌ كاملٌ على غروب شمس الدولة العثمانية، والمعروف أنه لم يبرز مَن يدعو لعودتها واعتبار أن أملاكها في كل أرضٍ وصلت إليها جيوشها أملاكاً تركية، إلّا رجب طيّب إردوغان وبخاصة بعد ما اختاره الإخوان المسلمون «مرشداً» لهم، وهنا فإنّ المعروف أن بعض قيادات هؤلاء بقيت تتحدّث، وإنْ سراً وفي الحلقات الضيّقة، عن ضرورة عودة «العثمانيين» على اعتبار أن قادة دولتهم كانوا «خلفاء راشدين»... وبالطبع فإن هذا لا صحة له على الإطلاق!
والمعروف أيضاً أنَّ من سبقوا رجب طيب إردوغان إلى هذا الموقع، بعد انهيار الدولة العثمانية وأولهم مصطفى كمال (أتاتورك)، كانوا قد تناوبوا على «إهالة» المزيد من التراب عليها، لا بل إنهم في معظمهم، وهذا إنْ ليس كلهم، قد تبرّأوا منها لأنها، حسب رأيهم، كانت دولة متخلفة واستبدادية و«رجعية» لم تعد قادرة على الاستجابة لمتطلبات القرن العشرين الذي كان قد شهد تحوّل معظم دول الغرب إلى «العلمانيّة» وأيضاً إلى بروز ظاهرة الدول الاشتراكية والشيوعية وبخاصة في الشرق البعيد كالاتحاد السوفياتي والصين الشعبية ولاحقاً كفيتنام وكوريا الشمالية.
والثابت أن رجب طيب إردوغان لم يُصب بـ«فيروس» لوثة استعادة دولة الخلافة العثمانية إلّا بعد اختياره مرشداً للتنظيم العالمي لـ«الإخوان» المسلمين، وحيث إن الأكثر أهمية بالنسبة إليه لم تكن استعادة هذه الخلافة التي كانت قد «ولَّتْ» بلا رجعة في بدايات عشرينات القرن الماضي بل الاستحواذ على شرقي البحر المتوسط وتجاوزه نحو شواطئ أفريقيا العربية والسيطرة على ليبيا: «جماهيرية معمر القذافي» السابقة التي بالإضافة إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي تعد «مستودعاً» هائلاً للنفط والغاز ومنجماً للذهب الذي من الواضح أنه هو ما أسال لعاب الرئيس التركي ومَن معه من «إخوانه» في هذا التنظيم العالمي.
ربما من حق رجب طيب إردوغان، على اعتبار أنه أصبح مرشداً ًعاما للتنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين»، أن يسعى لاستعادة ما يعدّه «أمجاد» الدولة العثمانية الراحلة، وإنَّ من حقه أيضاً أن يكون «وريث» ما يعده أملاكها ليس في ليبيا وحدها وإنما في كل ما وطأته «حوافر» خيول الفرسان العثمانيين الذين كانوا قد اشتهروا بالسلب والنهب والإمعان في تعذيب رموز الأمم والشعوب التي كانت قد سيطرت عليها دولتهم ومن بينهم الأمة العربية التي كانت قد سبقت العثمانيين إلى الحضارة والتقدم والتطور بسنوات طويلة.
كان العرب، الذين بات حتى رجب طيب إردوغان يستهزئ بهم وينكر دورهم في المسيرة الحضارية الكونية، قد شيّدوا «إمبراطوريات» أهمّ بألف مرّة من الدولة العثمانية، إنْ في العهد الأموي وإنْ في العهد العباسي وإنْ في العهد الفاطمي، والمفترض أنَّ مرشد التنظيم العالمي لـ«الإخوان» المسلمين يعرف بحكم موقعه أنًّ الأمة العربية، أمة رسولنا العظيم محمد والخلفاء الراشدين، قد تجاوزت بقيادة طارق بن زياد ما سُمي لاحقاً جبل طارق، وشيّدت حضارة في الأندلس وفي إسبانيا إنْ هو ينكرها ولا يعترف بها فإن عليه أن يسأل عنها كتب التاريخ المنصفة والجامعات الغربية كلها ومن بينها جامعة «أكسفورد» الشهيرة التي كانت قد بدأت في ذلك الزمان الذي غدا بعيداً بمدرسة صغيرة كان قد شيّدها وافدٌ بريطاني بقي يتجوّل في المدن الأندلسية العربية لسنوات طويلة وعاد بمجموعة من كتب الأطفال التي بدأ بها هذه المدرسة التي أصبحت لاحقاً واحدة من أهم الجامعات الكونية.
كان العرب، حتى قبل الإسلام العظيم وحتى قبل أن تكون هناك الدولة أو «الإمبراطورية» الأموية والعباسية وأيضاً الفاطمية دولاً عربية متقدمة وعظيمة من بينها «مملكة الأنباط» التي كانت عاصمتها مدينة البتراء التاريخية والتي شملت منطقة «النقب» وسيناء والأردن الحالي وشمالي الجزيرة العربية والتي كانت بمثابة محطة «استراتيجية» على طريق «البخور» تقع على مفترق طرق القوافل القادمة من اليمن والذاهبة إلى بلاد الشام ومصر والبحر الأبيض المتوسط. وهذا بالإضافة إلى دولة الغساسنة الشهيرة ودولة المناذرة التي كانت عاصمتها «الحيرة» والتي امتدَّ حكم ملوكها إلى العراق كله وهذا كان بالطبع قبل الدعوة الإسلامية بسنوات طويلة.
وهنا فإن المقصود ليس التقليل من شأن الأشقاء الأتراك، لا سمح الله، فهم تاريخياً كانوا منّا ونحن كنّا في فترات لاحقة منهم، إنّ المقصود هو «إفهام» رجب طيب إردوغان أن هذه «اللغة» التي بات يتحدث بها عن «العثمانيين» وعن أنه هو وريثهم وأن من حقه أن يكون له ولتركيا ما كان لهم إنْ في ليبيا وإنْ في غيرها، غير مقبولة على الإطلاق، وإلّا لكان من حقِّ «البيزنطيين» أن يستعيدوا إسطنبول ومن حق الفرس أن يستعيدوا أملاك جدودهم الذين كانت لهم إمبراطورية وصلت إلى اليونان واحتلت جزءاً كبيراً من هذا الشرق الأوسط الحالي كله.
إنَّ المؤكّد في هذا المجال هو أن غالبية الأشقاء الأتراك لا يؤيدون هذه النزعة «العثمانية» التي باتت تتحكم بتوجهات ومواقف وتطلعات رجب طيب إردوغان، فهم يعرفون ويدركون أنه من غير الممكن، لا بل إنه من المستحيل، إعادة توجهات حركة التاريخ إلى الوراء، وأنه إذا كان من حقهم استعادة ما كان للعثمانيين في هذه المنطقة وفي كل ما كانت امتدت إليه دولتهم العثمانية فإنه من حق العرب أنْ يستعيدوا لواء الإسكندرون، ومن حق اليونان أن تستعيد ما كان لها، ومن حق «البيزنطيين» أن يستعيدوا ما كان لهم، وأن مدناً كثيرة من بينها «ديار بكر» كانت مدناً عربية، وأنّ فتح «الملفات» القديمة في هذا القرن المتأخر بالطريقة التي يتحدث بها رجب طيب إردوغان ستكون عواقبه وخيمة وسيؤدي إلى حروبٍ طاحنة بالفعل وإلى نزاعاتٍ مدمّرة كثيرة.
ولعلّ ما يجب أن يأخذه رجب طيب إردوغان، ومعه كل الذين يخيطون بـ«مسلّته» الصدئة هذه، بعين الاعتبار هو أن تركيا نفسها معرّضة للتشظّي والانقسام، فهناك الأكراد الذين يشكّلون رقماً رئيسياً في المعادلة التركية، السياسية والعددية، والذين لا بد أن يحصلوا على استقلالهم ذات يومٍ قريب ولا بد من أن يقيموا دولتهم المستقلة التي يستحقونها... وأيضاً فإنه لا بد من أن يعود لواء الإسكندرون العربي، الذي كان المحافظة الخامسة عشرة في الجمهورية العربية السورية والذي كانت فرنسا المستعمِرة قد منحته في عام 1939، في بدايات الحرب العالمية الثانية، لتركيا لضمان تأييدها لـ«الحلفاء» في هذه الحرب، وحيث قد جرى تغيير اسمه العربي في زمن مصطفى كمال «أتاتورك» إلى «هاتاي».
إنه من الأفضل للأشقاء الأتراك، الذين بالإضافة إلى الدين الإسلامي العظيم تربطهم بالعرب وتربط العرب بهم علاقات تاريخية عظيمة بالفعل، أن يُغلقوا هذه الأبواب التي فتحها رجب طيب إردوغان بعدما أصبح مرشداً عاماً للتنظيم العالمي لـ«الإخوان» المسلمين، إذ إن ما يسمّيها «الأملاك العثمانية» قد عادت إلى أهلها، وإن العثمانيين قد أصبحوا صفحات مطويّة في كتب التاريخ، وإن ليبيا للشعب الليبي الذي من ضمنه الأقلية ذات الأصول التركية وليست الأصول «العثمانية»، إذ إن كل أهل هذه المنطقة التي كانت قد وصلت حوافر خيول فرسان الدولة العثمانية إليها كانوا يعدّون عثمانيين... لكنّ المعروف أن كل شيء قد تغير بعد الحرب العالمية الأولى وأنه لم يعد هناك وجود لعثمانيي المراحل القديمة، وعليه فإن الأفضل للأتراك ولأشقائهم العرب طيّ هذه الصفحة البائسة نهائياً التي فتحها الرئيس التركي على أساس أنه خليفة الإسلام والمسلمين، وهذا غير صحيح، ولا يمكن أن يكون على الإطلاق، على اعتبار أنه أصبح «المرشد» العام للحركة الإخوانية العالمية!