إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الحضارة الباحثة عن المجد الوهمي

لا يُمكن تمييز القيم المركزية والقيم الفَرعية في المجتمع الإنساني ، إلا بتكوين منظومة فكرية قائمة على طرح الأسئلة ، وتَجميع الفرضيات ، واختبارها وَفْق قواعد المنهج العِلمي ، مِن أجل الوصول إلى صيغة معرفية مُتماسكة ، تَكُون أساسًا منطقيًّا لبناء النظريات الاجتماعية القادرة على تفسير وَعْي الإنسان ، وسُلوكه ، وعلاقته بنفْسه ، وعلاقته بالآخرين، وطبيعة ارتباطه بالعناصر المعرفية في داخل كيانه وخارجه .

     والنظريةُ فرضية تَمَّ التحقُّق مِنها ، وإثباتها بالأدلة والبراهين ، فانتقل المعنى مَن أطوار الشَّك إلى حالة اليقين ، وتَحَوَّلَت الأسئلة المصيرية إلى إجابات شافية ، تُحدِّد معالمَ الطريق أمام الفرد والجماعة . والوصولُ إلى حالة اليقين هو التحدي الصعب في المجتمع الإنساني ، لأن العلاقات الاجتماعية لا تُبنى على الشَّك ، والأُسس المعرفية للحضارة تَفقد معناها في حالة غياب الثِّقة . وحالةُ اليقين هي قِمَّة الجبل ، التي تتطلَّب جُهدًا هائلًا لبلوغها، لأن الطريق إليها مليء بالعقبات والصعوبات . وإذا أراد المجتمعُ الإنساني تذليل العقبات والصعوبات وتجاوزها ، لا بُد أن يُفجِّر الطاقات الإبداعية في نُفوس أبنائه ، ويُحرِّرهم مِن الخَوف ، لأن الخوف يشلُّ قُدرة الفرد على التفكير ، ويُفقِده ثقته بنفْسه، مِمَّا يؤدِّي إلى انهيار الجُزء في المنظومة الاجتماعية، وإذا انهارَ الجُزء، انهارَ الكُل تِلقائيًّا .

وفي بعض الأحيان، يخاف الإنسانُ مِن نفْسه ومُجتمعه، لأن الإنسان_في السياقات الاجتماعية الضاغطة_

يتمُّ احتكاره ، والاستحواذ عليه ، والسَّيطرة على أحلامه ، وقمعها ، ومَنعه مِن التفكير ، وإقناعه بأن هناك مَن يُفكِّر نِيابةً عِنه ، ويتَّخذ القرارات باسمه ، فلا معنى لإعمال عقله ، ولا إتعاب نفْسه في التفكير . وهذا الانهيارُ الشامل يَظهر بوضوح في المجتمع الإنساني الاستهلاكي المادي الذي سلَّع الإنسانَ ، وجَعله سِلعةً مسلوبةَ الإرادة ، وخاضعةً لقانون السُّوق .

والنظامُ الاجتماعي المَهووس بالاستهلاك المُتَوَحِّش ، الذي يعتمد على تدمير عناصر البيئة واستنزاف موارد الطبيعة للحُصول على المُتعة واللذة والرفاهية ذات الصِّبغة الأنانية ، أحكمَ قبضته على العلاقات الاجتماعية ، وفرَّغ الإنسانَ مِن مُحتواه الإنساني ، وحوَّله إلى كيان مُوحِش ومُتَوَحِّش ، وفاقد لشروطه وجوده الحُر . لذلك ، صارَ هدف الإنسان هو الوصول إلى منفعته الشخصية ، وتحقيق مُتعته الذاتية ، ونَيل الخلاص الفردي، دون أيِّ اعتبار آخَر ، ودُون اهتمام بمصير مجتمعه . ومِن أجل تكريس هذه الأنانية المركزية ، يَسحق الإنسانُ أخاه الإنسان ، ويُدمِّر عناصرَ البيئة ، لأنَّه صارَ يَعتبر البشر أعداء ، يجب إخضاعهم وإذلالهم ، من أجل التحكُّم بهم ، ونهب ثرواتهم ، والاستحواذ على حاضرهم ومُستقبلهم ، وصار يعتبر عناصرَ البيئة عقبةً في طريق التقدُّم الصناعي والرخاء الاقتصادي ، لذلك لم يَعُدْ يُبالي بطبقة الأوزون ، أو الاحتباس الحراري ، أو التغيُّر المناخي، أو ذوبان الجليد في القطب الشمالي أو الجنوبي ، أو حرق الغابات التي تُنقِّي هواءَ كوكبنا ، فالغايةُ هي بناء المجد الذاتي وتحقيق الرخاء الشخصي على حساب تعاسة الآخرين وشقائهم . وهذا مجد وهمي ، وانتصار مُتخيَّل ، لأن الإنسانَ لا يَحصل على الأمان عن طريق قَتْل جاره ، أو تهديد سُكَّان منطقته ، إو إحداث فوضى في عَالَمَه ، وإنما يحصل على الأمان عن طريق الحوار الهادئ مع الآخرين ، والوصول إلى صيغة توافقية تحفظ حقوق جميع الأطراف ، معَ بناء منظومة تعاون مُشترك لِمَا فيه خَير الحضارة وسعادة البشرية . ومهما كان الإنسانُ ماهرًا باللعب بالنار وتهديدِ الآخرين ، سيحترق بها يومًا ما ، ويَدفع ثمن أنانيته ، وكُل كَاسر مكسور ، وقانون تداول الحضارات يَسري على الجميع ، ولا يَرحم أحدًا، لذلك ينبغي أن تكون العلاقات الانسانية قائمة على التراحم والاحترام المتبادل ، بدون إخضاع ولا إذلال ولا استغلال ، لأن القوي لا يظل قويًّا إلى الأبد ، والضعيف لا يظل ضعيفًا إلى الأبد . والدُّنيا دوَّارة ، والدهر يَومان : يَوم لك ، ويَوم عليك . والتاريخُ يُعيد نفْسه بأدوات عَصْره ، ولا جديد تحت الشمس . الحُب هو الحُب في كل مراحل التاريخ، ولكن وسائل التعبير عنه تختلف باختلاف الزمان والمكان وطبيعة الناس. وأيضًا ، الحربُ هي الحرب في كُل العُصور ، ولكن الاختلاف في نوعية الأسلحة. وهذا يدل على أن المشاعر الإنسانية واحدة، سواءٌ كانت إيجابية أم سلبية، لسبب بسيط ، وهو أن الحضارة تستطيع أن تخترع تقنيات جديدة ، وتبتكر وسائل تكنولوجية حديثة ، ولكنها لا تستطيع أن تخترع إنسانًا جديدًا ، وتبتكر مشاعر وعواطف حديثة .

والإنسانُ لا يتعلَّم من التاريخ ، لذلك يُكرِّر أخطاءَ مَن سَبقوه ، والمشكلة أنَّ كل إنسان يعتقد أنَّه أذكى مِن الآخرين ، وأنَّه الاستثناء مِن القاعدة ، وما أصابَ الآخرين لَن يُصيبه ، وما حَدَثَ لهم لَن يَحدث له. وهذا الغُرور قاتل، لأن الإنسان يتحرَّك في حلقة مُغلَقة مُسَيْطَر عليها ، وهي مَحكومة بقانون التاريخ الذي لا يَستثني أحدًا . ومهما كان الإنسانُ ذكيًّا ، لا يَقْدِر أن يَهزم التاريخَ . ومهما كان السَّباحُ قويًّا ، لا يَقْدِر أن يَهزم البحرَ . وما يَنطبق على الإنسان ( العُنصر الجُزئي ) يَنطبق على الحضارة ( المنظومة الكُلِّية ) .

وللأسف الشديد ، وقعت الحضارةُ الباحثة عن المجد الوهمي، في فَخ الواحدية الفلسفية ومِصْيَدة أُحادية القُطب، أي إنَّها اعتقدت أن وجودها يستلزم نَفْيَ الآخرين وشطب تُراثهم الحضاري، وأن المكان لا يتَّسع إلا لحضارة واحدة فقط . وبالتالي، لا مجال للتعدُّد، ولا فرصة لصناعة عَالَم مُتعدِّد الأقطاب . وهذه نظرة قاصرة ، لأن البشرية في سفينة واحدة ، وكُل حضارة لها حُجرة في هذه السفينة ، وإذا تصادمت الحضاراتُ ، وحاولت كُل حضارة أن تنفي الحضارةَ الأُخرى، وتُلغي خُصوصيتها الثقافية، فإنَّ السفينة ستغرق ، وتنهار المنظومة الحضارية الجَمعية برُمَّتها . وهنا تبرز خُطورة اللعبة الصِّفرية ( إمَّا أنا أو أنتَ ) ، التي تشتمل على المبدأ الوَحْشي : " المكان يتَّسع لشخص واحد فقط". وفكرةُ الإقصاء تَقُود الإنسانَ إلى تدمير نفْسه بنفْسه، وتحطيمِ عناصر الطبيعة ، لأنَّه يَدخل في صراع مستمر ودائم ، يَستنزفه حتى الرمق الأخير . وهذا هو انتحار الإنسان التدريجي الذي يتم على مراحل زمنية ، ويتطلَّب البحث عن أعداء جُدُد باستمرار ، لإبقاء نار الحِقد مُشتعلة .

وفي رحلة البحث الجنوني عن الصِّراع والصِّدام واحتمالات الانتصار والهزيمة ، يَغرق الإنسانُ في هَوس الاستهلاك ، وأحلامِ السيطرة على موارد الطبيعة وعناصر البيئة ، والتفكير بأساليب قَتل جديدة ، قَتل الرُّوح ، وقَتل الجسد . وتَتَكَرَّس مفاهيم مُتَوَحِّشَة كالاستئصال والإبادة والتَّطهير العِرقي والإلغاء الشامل . وهذا يعني أن الإنسان ابتلعَ جُرثومة الحضارة الباحثة عن المجد الوهمي ، وتجذَّرت بِذرة انهيار الإنسان في داخله ، لأنَّه اعتقدَ أن حياته تَستلزم مَوت الآخرين ، ووجوده يتطلَّب فناء عناصر الطبيعة ، وأنَّ الحضارة مشروع مادي استغلالي شخصي ، يَسعى إلى تحقيق الانتصار ، بغض النظر عن الوسيلة ، ومهما كان الثمن . وهذا يَجعل الحضارةُ وحشًا كاسرًا ، يُشكِّل خطرًا على وجود الأفراد والمجتمعات . وبدلًا مِن أن تكون الحضارةُ هي الحَل لمشكلات الإنسان ، صارت هي المشكلة . وهذا يعني حُدوث مُواجهة كارثية بين الإنسان والحضارة ، ينتج عنها دمار شامل. والأمرُ يُشبِه حُدوث مُواجَهة بين الرُّبَّان والسفينة ، ولا يُمكن أن ينتج عنها إلا الغرق .

وهذا الانحرافُ الخطير ينبغي أن يُوَاجَه بمنهج حضاري إنساني غَير مُوحِش ولا مُتَوَحِّش ، يقوم على ثنائية ( أنا وأنتَ ) ، وليس ( أنا أوْ أنتَ ) ، فالطريقُ يتَّسع لجميع المَارَّة ، والحضارة الإنسانية إسهامات تراكمية عابرة لحدود الزمان والمكان . وكُل مَن يَعتقد أن إلغاء إنسانية الآخرين سيَجعله إنسانًا مُتَفَرِّدًا ومُمَيَّزًا ، ومُستقرًّا في قلب الأحداث ودائرة الضَّوء لوَحْده ، هو وَحْش ، وليس إنسانًا ، وسيخسر نفْسه والآخرين . ومَن يُرِدْ كُل شيء ، يَخسر كُل شيء . وكما قِيل : كَسر مجاديف الآخرين ، لا يَزيد مِن سُرعة قاربك .

و" البشرية في سفينة واحدة " ليس شِعارًا رومانسيًّا حالمًا لإظهار المحبة بين الناس ، وصناعةِ الأُخُوَّة البشرية ، وبيان وَحدة المصير الإنساني. إنَّ هذا الشِّعار هو مُلخَّص الوجود الإنساني ، والحقيقة الواقعية الثابتة في عصر المُتغيِّرات . وكُل تهديد وُجودي في أيَّة بُقعة في هذا العَالَم ، هو بالضرورة تهديد للوجود الإنساني بأكمله . وكُل مُشكلة صِحِّية ، أو معرفية ، أو بيئية ، أو تكنولوجية ، مهما بدت صغيرة وبعيدة ، هي مشكلة لكل البشر، وقريبة مِنهُم أكثر مِمَّا يتخيَّلون ، وتُؤَثِّر على حياتهم ووجودهم ومصيرهم بشكل أو بآخَر . فإمَّا النجاة معًا ، أو الغرق معًا .