سعد القرش يكتب:

25 يناير 2020.. إهدار رأسمال الثورة باختلاق عدوّ

تسع سنوات على ثورة 25 يناير 2011 تؤكد استمرار العناد. المؤمنون بها يراهنون على الأمل في إنجاز وعدها الإنساني وعنوانه الحرية، والسلطة لا تيأس من قتْل فكرة الثورة، وتواصل تجريم وقائعها، وتفرّط في كل فرصة تتاح لاستيعاب رأسمالها الرمزي، وتختلق عدوّا وهميا لتسويغ حالة بائسة من الاستنفار توحي لضيوف معرض القاهرة الدولي للكتاب (22 يناير ـ 4 فبراير 2020) بأن حربا توشكُ أن تشتعل، بعد أسبوع من تحميل ضيوف ملتقى القاهرة الخمسة للشعر العربي رسالة بأن مصر غير آمنة لا تحتمل فتح مقاه وسط القاهرة.

اختلاق العدوّ سلوك بائس لا يقنع أحدا، ويثير السخرية من جنود وضباط مساكين، مغلوبين على أمرهم في برد يناير، إذ يصطفّون أمام سيارات وآليات مصفحة يزيد عددها على أعداد مشاة تجنبوا النزول في ذكرى ثورة 25 يناير 2011؛ لتفادي مصادرة حياتهم وحرياتهم وتفتيش هواتفهم، بحثا عن عدوّ إلكتروني هارب من الإسفلت.

تسع سنوات لا تعلّم السلطة استحالة نزع فكرة الثورة، ولو بالحنين والرجاء. بعد خلع حسني مبارك في 11 فبراير 2011 وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة حكم البلاد عمّمت صورة فوتوغرافية رمزية، على حافلات النقل العام، لجندي خلال الثورة يحمل طفلا. ولم يكن أقدم شعب متجانس في التاريخ قاصرا لكي يحتاج إلى وصيّ يتعهده بالرعاية. وبعد 3 يوليو 2013 اختفت تلك الصورة، اعتمد خطاب يستحضر الخطر اليميني الحقيقي، وما تلاه من أعداء وهميين آخرهم المقاول محمد علي، وهو حليف وشريك سابق فرضوا فيلمه “البرّ التاني” على مهرجان القاهرة السينمائي عام 2016. ورغم فشله في التمثيل فقد أتيح له أن يقوم ببطولة أطول فيلم في التاريخ على مدى خمسة أشهر، وانتهى بإعلانه اعتزال السياسة والتفرغ للبزنس. أسدل محمد علي الستار على المشهد الأخير في ذكرى اندلاع الثورة، السبت 25 يناير 2020.

في السنوات القليلة السابقة على عاصفة يناير 2011 اختلقت عدة أخطار، لإثارة القلق الشعبي، وتنبيهه إلى جريمة توريث الحكم لجمال مبارك. وفي كتاب “خبرني العندليب” لعمر قناوي تفاصيل عن تلك التدابير. وبعد نجاح ثورة 25 يناير 2011 في نزع القداسة عن أي شخص أو مؤسسة، دينية كانت أم قضائية أم عسكرية، لم يعد بوسع أي رجل دين الادعاء بأنه يمثل الدين، ولا يستطيع أي رئيس أن يلخّص الوطن في شخصه. وفي 30 يونيو 2013 انتهى الخطر الإخواني، وقام الشعب بحماية الجيش من الانتقام الأعمى. تلك هي الحقيقة، ففي المواجهات داخل المدن لا تنجح الجيوش غير المؤهلة لأعمال الشرطة في التصدي للعدوان لأنها آلات قتل وتدمير في مواجهات ساحاتها الصحارى لا الميادين والشوارع. ويستطيع غاضب مدرّب على أعمال العصابات تفجير سيارة، أو إعطاب دبابة سيعجز طاقمها عن تعقبه بمدفع لم يصمم لاصطياد شخص. بهذا المنطق يكون الجيش مدينا للشعب بحمايته من كارهي البشر، وإن لم يُحظَ الشعب بصورة فوتوغرافية لهذا الجميل. لا ينسى المشاركون في ثورة 25 يناير أن مطار القاهرة، قبل صعود قوى الثورة المضادة، ظل يتزين بجداريات توثق مأثورات تغنى فيها زعماء العالم بالثورة السلمية. ولم يكن الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، وقتها، مضطرين لنفاق شعب فاز بالحرية، وجعل رئيس النمسا هاينز فيشر يدعو إلى منح المصريين جائزة نوبل للسلام لأنهم “أعظم شعوب الأرض”.

ولكن سلطة ما بعد 3 يوليو 2013 تهدر رأسمال رمزيا، وبدلا من أن يصير ميدان التحرير مزارا سياحيا عالميا، تحاكى فيه سنويا مشاهد لأهم 18 يوما في تاريخه، يُنظم مزاد إعلامي لشيطنته، وعلى الأرض يجري تطويقه، فتصبح الذكرى مقبضة. وفي هذا السياق يكون من العبث أن يثير مخلوق قضية القصاص لشهداء الثورة من الشباب الأعزل. ولا يستطيع أحد محو الاعتراف العسكري الرسمي، المسجل صوتا وصورة بعد خلع مبارك، على لسان اللواء محسن الفنجري عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة “إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتوجه بكل التحية والإعزاز لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداء لحرية وأمن بلدهم ولكل أفراد شعبنا العظيم”.

ربما يرجع العداء الرسمي لثورة 25 يناير إلى إصرار المؤمنين بها على تجاوز دور محدود رسم لهم، وإيمانهم بضرورة التصرف الناضج بعيدا عن ولاية جسّدتها صورة الطفل في رعاية الجندي. لعلي أجد تفسيرا لهذا العداء في ضوء مفهوم “الاستدعاء”، وهو مصطلح عسكري يعني اللجوء إلى تجنيد قوات احتياطية في أوقات الطوارئ. ربما رأوا أن يخططوا لاستدعاء الشعب لوقف عملية التوريث، ثم فوجئوا بالجماهير في مثل هذا اليوم، 28 يناير 2011، تحوّل الخطوة التكتيكية إلى إستراتيجية بلا ضفاف، وتطلب فردوس الحرية الأعلى. ولم يكن مسموحا بهذا الحلم. وربما خططوا للخطوة التالية، 30 يونيو 2013، لتكون عملية محدودة تنهي حكم اليمين الديني ولا تطمح إلى تأسيس دولة القانون.