د.علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
عالم حلبي يحاورني حول حول اليمن!!
في نهاية الثمانينات من القرن الماضي دعاني أحد الأصدقاء وهو أستاذ في جامعة دمشق لمأدبة غداء في منزله وعرفني على الحضور الذين لا يتعدون سبعة أشخاص ولفت انتباهي شيخ جليل ضرير بين الحضور وعند مصافحته قال مضيفي :
أعرفك على الشيخ أبو علي الحلبي الذي يعرف اليمن ومشاكله أكثر منك !!!
وجلست بجوار الشيخ وهو كفيف ولكنه بصير القلب والنفس وباشرني بسؤال :
لماذا لم يتوحد اليمن الجنوبي مع الشمالي ؟
فقلت له :السبب أن في الجنوب نظام ماركسي وفي الشمال نظام يدور في فلك الغرب أي أننا ضحية معسكرين شيوعي ورأسمالي !!!
فقال لي :لا ...ليس هذا هو السبب.!!
فقلت له: إذن ما هو السبب برأيك ؟
فقال لي: هناك عدة أسباب يمكن إيجازها فيما يلي :
1- ثقافة المجتمع الشمالي تختلف اختلافاً جذرياً عن الجنوب حيث أن الشمال لا زال متأثراً بالهيمنة التركية وحكم الإمامة التي دامت عدة قرون وتتبع المذهب الزيدي الذي يستند على الحكم السلالي الذي بدوره يعتمد سياسة القمع وأخذ الرهائن من أبناء القبائل لضمان ولائها ويحكم البلاد حكماً مركزياً قوياً.
2- العزلة الثقافية والحضارية التي فرضها حكم الإمامة على الشمال مما أدى إلى تخلف كبير في التعليم والتخلف الحضاري في بنية المجتمع .
3- سلطة القبيلة وشيوخ القبائل حلت محل الإمامة في التسلط والقهر على المواطنين (الرعية)كما يسمونهم وبالتالي فرخ النظام الجمهوري الجديد عشرات الأئمة من شيوخ القبائل .
4- ضعف مؤسسات الدولة وفشلها في إقامة العدالة الاجتماعية بين المواطنين بسبب هيمنة القبائل على مفاصل الدولة .
5- انتشار الفساد والمحسوبية في مؤسسات الدولة وإضاعة حق الضعفاء في حين تسلط الأقوياء على المجتمع.
وخلاصة القول أن الثورة التي أطاحت بالإمام لم تأت سوى بالقبيلة وتقوية نفوذها، وفي الجانب الديني كرست الثورة تسلط الزيود الذين لا يشكلون 30% على كافة مفاصل الدولة، بينما يشكل الشوافع 70%من السكان وهم الأكثرية وهم المبدعون والناشطون في الحياتين الاقتصادية والاجتماعية في اليمن .
فقلت له :وماذا عن الجنوب ؟ نحن لدينا تجربة مختلفة...!!
قال لي الشيخ أبو علي : نعم ولكن الجنوب عاش تحت الحكم الاستعماري البريطاني 139 عاماً وخاصة عدن أما باقي الإمارات الجنوبية فلم تدخلها بريطانيا إلا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة لوجودها وبالتالي فإن بريطانيا استطاعت أن تجعل من عدن نسخة من الديمقراطية البريطانية فأنشأت برلماناً حراً ونقابات عمالية وانتخابات حرة وصحافة حرة وإدارة مدنية حديثة .
مما شكل هوة ثقافية واجتماعية بين عدن والإمارات الجنوبية آنذاك فمن مجتمع مدني إلى حكم قبلي حتى أن سكان عدن كانوا ينظرون باستعلاء إلى أهل المحميات سابقا ويصفونهم ب (البدو)ورغم قيام اتحاد الجنوب العربي عام 1959م لم تنضم عدن إليه إلا بصعوبة في أوائل الستينات .
1-الجنوب بمجمله أهله ينتحلون المذهب الشافعي ولم تتأثر المدارس الصوفية في عهد البريطانيين بالتيارات الدينية الجديدة وظلت على حالها.
2-استفاد أبناء الإمارات الجنوبية من دخولهم في الجيش والأمن والحرس القبلي سواء في عدن أو المحميات آنذاك وتأثروا إلى حد ما بالثقافة الجديدة ولكنها لم تؤثر في انتمائهم القبلي بل عمقته بينهم وبين القبائل الأخرى في الجيش والأمن والمنافسة على المراكز القيادية وتعميق الروح القبلية ، ثم سألني : من أي قبيلة أنت؟؟ فقلت له : أو تعرف قبائل الجنوب ؟؟؟
قال: نعم أعرفها ..
فقلت له: أنا من قبيلة العوالق !!
قال: لقد كان الإنجليز يفضلون تجنيد القبائل الشرقية مثل العوالق والعواذل .
وهنا اتسعت دهشتي واستغرابي من إلمام هذا الشيخ الحلبي بالشأن الجنوبي فقلت له: نعم!!
قال: ولكن الحزب الاشتراكي اليمني عمق التنافر بين القبائل بدلا من دفعها إلى التسامح أو على الأقل كان من المفترض أن يعمل على التوازن فيما بينها في الجيش ولكنه فضل أدلجتها وتمزيقها !!
واستطرد قائلا: رغم أعمال القمع التي قام بها الاشتراكي إلا أنه غاب عن وعيه أن الجنوب تاريخيا لم يخضع لحكم مركزي قوي مع اليمن إلا في فترات قصيرة جدا ..ونسي الاشتراكيون أن فترة حكمهم لم تكن كافية لترسيخ وحدة الجنوب التي لم تكن موجودة أصلا وفرضوها عليه بالقوة...وكما تعلم أن سلطنات الكثيري والقعيطي والمهرة لم ينضموا إلى اتحاد الجنوب العربي وكانوا يتطلعون لقيام دولة خاصة بهم وكذلك أهل عدن .
بينما بقي أبناء القبائل الأخرى في الإمارات الجنوبية رغم وجودهم في الاتحاد لكنهم ظلوا لم تكن رؤيتهم موحدة رغم أن السلاطين جسدوا وحدة الجنوب بقيام اتحاد الجنوب العربي ولكن الأحزاب السياسية مزقت الجنوب بما فيهم الموالون للحزب الاشتراكي وظلوا يتنازعون على مراكز النفوذ والسلطة داخل الحزب ..حتى تفجرت أحداث 13 يناير عام 1986م!!
وكانت كارثية على الجنوب بأسره !! وفشل الاشتراكي رغم أدواته القمعية في حكم الجنوب رغم احتكاره للسلطة وفشل في تمدين القبيلة وترسيخ وحدة الجنوب وظلت المناطقية والقبلية هي التي تتحكم في القرار بكل جراحاتها وأحقادها وظلت أورامها تنمو في وعي الذاكرة بين أجنحة الاشتراكي وتعرض آلاف المواطنين والرموز الحية في المجتمع إلى مذابح جماعية اعتقادا منه أن التصفيات الدموية ستؤدي إلى ترسيخ الأمن وسلطة الدولة التي سرعان ما انقسمت وانهارت في أحداث يناير عام 1986م حيث لجأ القسم المهزوم إلى شمال اليمن وقام باحتواء الطرف المهزوم لصالحه للضغط على عدن مستقبلاً..!!
فقلت له : إذن ما هو الحل بنظرك؟؟؟
قال لي : الحل كما يلي :
1- على الحزب الاشتراكي أن يتصالح مع نفسه أولاً والسعي لإعادة القسم المهزوم إلى عدن وإعادته إلى السلطة.
2- على الحزب الاشتراكي أن يستوعب كافة الأحزاب السياسية الجنوبية والزعامات التاريخية والرموز الوطنية وإعادتها إلى الجنوب وإشراكها في السلطة كما فعل السلطان قابوس في عمان.
3- على الحزب الاشتراكي أن يعزز وحدة الجنوب وبث روح الوحدة الوطنية والتسامح بين أبناء الجنوب, والعمل على إعادة هيكلة الجيش والأمن بصورة متوازنة بين الجميع.
4- العمل على تأسيس دولة مدنية ديمقراطية حديثة لا تتبع أي معسكر شرقي أو غربي بل تنتمي لمحيطها الإقليمي والجغرافي العربي.
5- إنشاء علاقات حسن جوار مع دول الخليج وتقوية الروابط التاريخية.
6- الحفاظ على هوية الدولة الجديدة وترسيخها في ذاكرة الشعب من خلال العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية.
7- بعد تحقيق ذلك كله يمكن الاستفتاء الشعبي على إقامة الوحدة.
رغم أنني أشكك في نجاحها .. كما فشلت وحدتنا مع مصر!!
وأثناء الحديث كنت أدون كل النقاط التي ذكرها !!
وهنا دعانا مضيفنا الأستاذ د.أحمد للغداء وقال لي مداعباً:" لقد دعيته حتى تسمع منه أنه أكثر الماماً منك بمشاكل اليمن". فقلت: "نعم الله ..أن شيخنا الجليل قد أصاب فيما قاله وشخص الحالة والعلاج".
د. علوي عمر بن فريد