رشيد الخيُّون يكتب:

الرَّاضوع.. لم يره أحد!

كنا نقف على شاطئ الفرات، وننظر إلى الجهة الأخرى، حيث يقسم الشَّط الهور إلى قسمين، من الجانب الأيسر المدينة، التي خلق شوارعها مدير النَّاحية ورئيس البلدية، والوسيلة كانت قافلة الحمير. نقف مرعوبين مِن كائن اسمه “الرَّاضوع”، ولكلّ منا تصوّره عنه، زاحف بلا أرجل، أو يداه أطول من رجليه. يتعلق بالمرضعات فيرضع حليبهنَّ، وبعد ذلك يمص الدماء، ويتعلق بأثداء الجاموسة والبقرة السَّارحة في الهور ويمص الحليب، فتعود ولا يجد أصحابها إلا وشلة حليب لا تكفيهم.

نُسجت حول الرَّاضوع حكايات كثيرة، ينتظر عند حافة الهور، بين البردي، ليهاجم فرائسه. كتب الروائي والقاص أستاذنا في المدرسة الابتدائية فهد الأسدي قصة تحت عنوان “الرَّاضوع”، نُشرت حينها في إحدى الصحف العراقية، لعلها العام 1994، فأغلب قصص الأسدي مِن بيئة الأهوار، وهو الذي ولد وعاش ونشأ وعمل فيها.

ظلت “خرافة الرّاضوع” تُطاردنا، فكم يكون الكائن القاتل مجهولا، كم يكون مخيفا مرعبا، والرَّاضوع لم يره أحد، ولم تظهر مرضعة قد رضعها، ولا جاموسة ولا بقرة. هذا هو الرعب الذي يتركه الاغتيال المجهول، وقد قصدته العديد مِن مؤسسات الدول الأمنية، أو فرق الاغتيال والقتل.

لم يكن الرَّاضوع نوعا مِن الأفاعي، مثلما جاء في هامش قصة أستاذنا الأسدي، ومعلوم أن أغلب أفاعي المنطقة قليلة السّم، فأفعى الماء غير أفعى الرِّمال، أو صل الرّمل، وهو الذي وصفه محمد مهدي الجواهري (ت1997) بدقة، عندما قال في احتفال تكريم الطبيب هاشم الوتري (ت1961): “واستيأسوُا مني ومن مُتخشِّبٍ/عَنتَاً كصِلِّ الرّملِ يَنْفُخ غاضبا”. كانت تلك الأفعى تقف وراء قصبة أو بردية تنتظر فريستها الضفدعة، وبطنها لونه أبيض، وكنا نسميها بـ”المسلمة”، يوم كان المسلم لم يلوّث بعد بالإسلام السياسي، ويتحول في انتمائه هذا إلى “صل الرَّمل” ينفخ غاضبا حاقدا على الحياة.

بعد النشأة وشرخ الشَّباب استسخفنا بحكاية “الرَّاضوع”، لكنَّ الخوفَ، الذي تأسس في سنوات الطُّفولة ظل محفورا في ذواتنا. نهزأ به ظاهرا ونخضع له باطنا، وخصوصا خضعنا لأجهزة لا تترك الفزع مِن “الرَّاضوع” يُغادرنا، فهو القاتل، ولكن ليس أيّ قاتل، يرضع الأثداء ويمص الدماء، وهذا هو دوره في الحياة، لا يغريه أي طعام آخر غير الحليب والدَّم، وليس حبا بهما، فلا يشربهما من إناء أو ما يسيل في مجزرة أغنام وأبقار، إنما يريدهما من كائن حيّ!

هكذا، وظفت حكاية “الرَّاضوع”، تعبيرا عن الفزع مِن “الطَّرف الثالث”، ولكلِّ نظام طرفه “الثّالث!”.