أزراج عمر يكتب:

ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى محكومة بالعلاقات الشخصية

بين حين وآخر تصدر مختارات شعرية خاصة ببلد عربي أو فئة أو جيل، ولكن قراءها يصدمون إذا ما رأوا حضور أسماء بلا منتج وغياب أسماء منتجة ومؤثرة، فالأنطولوجيات هي في أغلبها وليدة الصداقات والعلاقات والشلل، ولا معيار أدبيا لها، وهذا ما يظهر حتى في الأنطولوجيات التي تنشر للشعر العربي مترجما إلى لغات أخرى، حيث لا تقدم لقراء تلك اللغة الوجه الحقيقي للشعر أو الأدب العربي.

منذ عدة سنوات أرسل إلي زميل صحافي وأديب لبناني، وهو جاد الحاج، من أستراليا نسخة من أنطولوجيا الشعر العربي الحديث المترجمة إلى اللغة الإنجليزية من طرف مستعربة أسترالية، ولاحظت حينذاك أن عددا من قصائد أهم الشعراء العرب في شمال أفريقيا وفي الشرق الأوسط غير متوفرة في تلك الأنطولوجيا.

وأعتقد أن اختيار القصائد المنشورة فيها لم يخضع لمعيار التمثيل الشعري الحقيقي لأجيال الشعراء وللمراحل التي مر بها الشعر العربي الحديث في مختلف أقطارنا، بل إن عملية الانتقاء تلك قد ركزت أكثر على قصائد نخبة معينة ومكرسة من شعراء المشرق العربي بشكل مفرط، مع إهمال لتجارب شعراء شمال أفريقيا.

 الصداقات قبل الأدب

 يبدو واضحا أن معظم أنطولوجيات الشعر العربي التي ترجمت إلى اللغات الأجنبية وخاصة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية قد تمت على أساس العلاقات العامة وليس على أساس الاستحقاق الإبداعي المختلف والمجدد.

 وبمعنى آخر فإن للسياسة دخلا في عملية انتقاء الشعراء حينا وحينا آخر فإن العلاقات الشخصية ونفوذ البلد الأدبي لهما ضلع في تلك العملية، وهو الأمر الذي جعل حضور الشعر العربي في اللغات الأجنبية انتقائيا وغير مؤثر في الوقت نفسه في بانوراما الحساسية الشعرية في الدول الأجنبية التي ترجم إليها.


وخلال الأسابيع القليلة الماضية اطلعت على عدد من أنطولوجيات الشعر الأفريقي الصادرة باللغة الإنجليزية ببريطانيا وأميركا عن دار نشر لين راينر، وأدهشني أنها لا تزال تواصل تكرار نفس الخطأ. من بينها أنطولوجيا “الشعر الأفريقي الجديد” الصادرة ببريطانيا وأميركا على نحو متزامن، وهي من إعداد وتحرير تنور أوجاييد وتيجان صلاح وترجمة عدد متنوع من المترجمين.

إلى جانب مختارات لشعراء من الدول الأفريقية السمراء فقد احتوت هذه الأنطولوجيا على قصائد من تونس والمغرب ومصر والسودان، وليس هناك ذكر لأي شاعر جزائري أو موريتاني أو ليبي علما أن الجزائر وليبيا وموريتانيا تنتمي إلى شمال أفريقيا أيضا.

وزيادة على ذلك فإن حصة الأسد قد منحت للجيل الثالث من شعراء مصر وعددهم أربعة شعراء، في حين اكتفى معدا ومحررا الأنطولوجيا المذكورة بنشر قصيدة واحدة للشاعر السوداني الراحل محمد عبدالحي وسبعة قصائد للشاعرين التونسيين وهما محمد الغزي وأمينة سعيد، وقصيدتين للشاعرين المغربيين محمد بنيس ورشيدة مدني.

 وفي الحقيقة فإن لتونس والمغرب والسودان والجزائر وليبيا وموريتانيا شعراء آخرين مهمين وربما أكثر تمثيلا للحداثة الشعرية العربية في الفضاء المغاربي ولا أحد يدري لماذا تم تجاهل شعراء الجزائر وموريتانيا وليبيا بشكل مطلق؟ ولماذا وقع الاختيار على شاعر واحد من السودان وشاعرين من المغرب وشاعرين من تونس فقط؟

اختيار عشوائي

من المعروف أن ترجمة شعر شعراء أي بلد تعني في العمق تقديم التجربة الثقافية والروحية لذلك البلد أو ذاك البلد الآخر لقراء اللغة التي ترجم إليها ذلك الشعر، ولذلك فإنه لا يمكن أن يحتكر هذا الشاعر أو ذاك الشاعر الآخر، ومهما كان عمق موهبته وفرادة تجربته الشعرية، التمثيل الجامع والمانع لتلك التجربة الروحية الكلية التي هي في الواقع انعكاس لتراكم التجربة الشعرية لمختلف عطاءات الأجيال الشعرية الموهوبة التي أنجبها هذا البلد أو ذاك البلد الآخر.

 صحيح أيضا أن ترجمة الشعر من لغة أخرى هي فعل صداقة مع الثقافات الأجنبية ومخيال شعوبها، كما أن مترجم الشعر يدرك منذ البداية أنه مورّط في شبه خيانة للأصل، وأن النص الجديد الذي يضعه على الورق هو ملحق لذلك الأصل فقط، ويدرك أيضا أن النصوص الأصلية ذاتها هي مجرد ملحقات للحياة التي عندما نقترب من أصلها يكون الموت قد اقترب منا. وبعبارة أخرى فإن ترجمة الشعر هي فعل تقريب ظلال المعاني وسديم العوالم الأكثر غرابة والكشف عن الصياغة الداخلية التي تتضمنها وتعطيها وجودها المتفرد.

ولكن المشكلة التي تطرحها هذه الأنطولوجيا ليست مختزلة في قضية القدرة على الوفاء لأصالة هذه القصيدة أو تلك القصيدة الأخرى، بل هي تتصل جوهريا بأخلاقيات احترام تراتبية وتنوع التجارب الشعرية في هذه الدولة أوتلك.

 من الواضح أن هذه الأنطولوجيا التي نناقشها هنا تدعي أنها “تقدم أصوات الجيل الجديد من الشعراء الأفارقة عبر القارة بأسرها وتظهر معالم واسعة من الموضوعات والأساليب والأيديولوجيات”، ففي الواقع فإن شعراء مصر هؤلاء ليسوا كلهم من جيل السبعينات حيث أن أمل دنقل ينتمي زمنيا إلى جيل شعراء الستينات من القرن العشرين.

ونفس الشيء يقال بخصوص الشاعر أحمد طه، وفضلا عن ذلك فإن الشعراء المصريين الآخرين المحتفى بهم في هذه الأنطولوجيا هم أقل تمثيلا للشعرية المصرية مقارنة بشعراء مصريين آخرين لعبوا دورا مهما في ترسيخ الشعر الحديث وقد برزوا بعد جيل الرواد بزعامة صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وغيرهما، أمثال إبراهيم أبوسنة.

 أما الأنطولوجيا الثانية التي أصدرتها دار بنجوين البريطانية الشهيرة في عدة طبعات وأشرف على تحريرها جيرالد مور وأولي باير فتحمل عنوان “كتاب بنجوين للشعر الأفريقي الحديث”، ويلاحظ أنها تقصي شعراء جميع بلدان شمال أفريقيا وتكتفي بشعراء دول أفريقيا السوداء.

 ولا شك أن خيار دار بنجوين لا يستند إلى الجغرافيا وإنما محدد بمفهوم أفريقيا الزنجية الذي هو معيار عرقي أكثر مما هو معيار إثني مشروط ومدعم بالتعددية الثقافية والإثنية في الفضاء الجغرافي الكلي لقارة أفريقيا.

إن الاختيار العشوائي لأنطولوجيات الشعر العربي أو لشعر شعراء شمال أفريقيا يحتاج إلى التدخل النقدي لدى دور النشر الغربية التي تقوم بمثل هذا العمل السلبي وذلك لتصحيح الموقف كما ينبغي أن يقودنا إلى طرح هذا السؤال: أليست اتحادات كتابنا ووزارات الثقافة ببلداننا التي تتنزه على مثل هذه العشوائية طرفا مسؤولا عن التمثيل السيء لتجاربنا الشعرية في مثل هذه الأنطولوجيات وغيرها؟