سمير عطا الله يكتب:

آية الجسد: فرس البحر

هذه هي الحلقة الثانية من الصورة التي يرسمها بيل برايسون للدماغ البشري: «وانطلاقاً من هذه المعلومات المجرّدة والحيادية، يولّد لك الدماغ، نعم يولّد لك حرفيّاً، كوناً ينبض بالحياة وثلاثي الأبعاد، يشركك بحيويّته. فدماغك هو أنت. وكلّ ما تبقّى ليس سوى أعمال سباكة وسقالة.

وإن كان دماغك صامتاً، غير منشغل إطلاقاً، فهو يدوّم في كمّية هائلة من المعلومات، تفوق تلك التي عالجها مرصد هابل الفضائي على مدى ثلاثين سنة. وقد يحتوي جزء صغير من البنية القشريّة بحجم ملليمتر مكعّب واحد - أي بحجم حبّة رمل واحدة - على 2000 تيرابايت من المعلومات، أي ما يكفي لتخزين كلّ الأفلام التي صُنعت بالإضافة إلى شرائطها الترويجية، أو ما يوازي 1.2 مليار نسخة من هذا الكتاب.

وبشكل عام، يقدر أن يحتوي دماغ الإنسان على 200 إكسابايت من المعلومات، أي ما يوازي تقريباً «كامل المحتوى الرقمي لعالمنا اليوم» بحسب مجلّة «نيتشر نيوروساينس» (Nature Neuroscience). أمّا إذا لم تُعتبر هذه المعلومة أعظم شيء في العالم، فبات من المؤكّد أن عجائب كثيرة لم تُكتشف بعد.

يؤدّي قرن آمون، المسمّى أيضاً حصان البحر، دوراً أساسياً في بناء الذكريات (سمّاه الإغريق كذلك بسبب تشابهه مع فرس البحر). أمّا اللوزة الدماغية (أي أميغدالا – Amygdala – بحسب التسمية الإغريقية لكلمة «لوزة»)، فتُعنى بمعالجة المشاعر الحادّة والمرهقة - كالخوف، والغضب، والقلق، والرهاب بجميع أنواعه. وبالتالي يفقد الأشخاص الذين يعانون تلفاً في اللوزة الدماغية شعورهم بالخوف بشكل تامّ، حتى أنّهم غالباً ما يصبحون غير قادرين على تمييز الخوف لدى الآخرين. وتجدر الإشارة إلى أنّ اللوزة الدماغية تنشط بشكل خاص خلال النوم، وبالتالي، قد تفسّر سبب تعكّر أحلامنا في أغلب الأحيان، أي أنّ الأحلام التي تنتابك قد تكون نتيجة إلقاء اللوزة الدماغية الثقل عن نفسها.

من الممكن أن ينطبق الأمر نفسه على الذاكرة. فنحن ندرك الكثير من المعلومات حول كيفية جمع الذكريات وكيفية تخزينها في المكان الملائم، إلّا أنّنا لا نعلم لماذا نحافظ على البعض منها ونتخلّى عن البعض الآخر.

من الواضح غياب الرابط بين الذكريات المُحتفظ بها وقيمتها الفعلية أو منفعتها. فعلى سبيل المثال، يمكنني أن أتذكّر التشكيلة الأساسية لفريق ساينت لويس كاردينالز لكرة المضرب عام 1964 - ولم يكن لهذه المعلومة أي أهمّية بالنسبة لي منذ عام 1964 إلى هذا الحين، لا بل إنه لم يكن لها أي أهمّية في ذلك الوقت - ولكنني لا أستطيع أن أتذكّر رقم هاتفي الجوّال، أو المكان الذي ركنت فيه سيارتي، أو ثالث غرض طلبت منّي زوجتي أن أشتريه، أو أيّاً من المسائل الأخرى المهمّة التي هي من دون أي شكّ أكثر إلحاحاً من تذكّر اللاعبين في فريق الكاردينالز عام 1964.
إلى اللقاء.