رشيد الخيُّون يكتب:
مقتدى.. القيادي في الزمن الخاوي
أعاد التَّيار الصَّدري بقبعاتهم الزُّرق، وملهمه مقتدى الصّدر، في الأربعاء الدامي (5/2/2020) إلى النَّجف تلك الحرب العبثية (2004)، بمشاركة أبي مهدي المهندس (قُتل 2020)، وسلوك ميليشيا جيش المهدي، وما أفرز مِن ميليشيات سماها مقتدى نفسه «بالوقحة»، قدم مقتدى بسلوك تياره المدمر، لسبعة عشر عاماً، أُسرة آل الصَّدر خلاف ما كان عليه رموزها الأوائل، الأُسرة العريقة في الفقه والدَّرس الحوزوي داخل العِراق، صحيح أنها تحدرت مِن جبل عامل، وعاش الأوائل منها بأصفهان، إلا أن وجودها لأكثر مِن مائة عام، بين الكاظمية وسامراء والنَّجف، حيث الحوزات والمرجعيات الدِّينية، حفرت لها تاريخاً دينياً وسياسياً، وتُعد مِن المرجعيات العربية أسوة بآل كاشف الغطاء وآل ياسين وآل الخالصي الأوائل.
أول مرجع برز منها إسماعيل الصَّدر (ت1920)، كان أحد تلاميذه محمد حسين النَّائيني (ت1936)، صاحب «مانفيستو» الحركة الدستورية «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» (النجف 1909)، ولإسماعيل أبناء آباء كلٍّ من: موسى الصَّدر (ت1978)، ومحمد باقر الصَّدر (أعدم1980 )، ومحمد صادق الصَّدر، جد مقتدى.
أما الفرع الآخر مِن أسرة آل الصَّدر، برز منه حسن الصَّدر (ت1935)، والد محمد الصَّدر (ت1956) رئيس وزراء العِراق ورئيس مجلس الأعيان، شارك في العمل السياسي الوطني، ويُعد أول وآخر معمم شيعي تولى رئاسة الوزراء (1948)، عن تاريخ شخصيات آل الصَّدر الأوائل، يمكن مراجعة (الأمين، أعيان الشِّيعة).
لم يتدخل محمد الصَّدر في السياسة كرجل دين، وإنما سياسي مدني، مع الاحتفاظ بالزَّي الدِّيني، سبقه أول وآخر معمم رئيس وزراء عراقي سُني عبد الرَّحمن النَّقيب (ت1927)، الذي احتفظ بزيه الدِّيني أيضاً، أما الذين تدخلوا في السِّياسة الحزبية فهما موسى الصَّدر، مؤسس ميليشيا «أمل»، ومحمد باقر الصَّدر أحد مؤسسي حزب «الدَّعوة» (1959)، خلاف ذلك مال ابن أخيه حسين إسماعيل الصَّدر إلى السَّلام بين الأديان والمذاهب مِن دون عمل حزبي أو سياسي، أما محمد محمد صادق الصَّدر(اغتيل1999)، فكان يتجنب السياسة، وأما الخطب التي قدمها من مسجد الكوفة (منذ 1997)، فتُعبر عن موقفه كرجل دين مهتم بالشأن العام، ولم يلتحق بحزب.
كان لا ينصح بالعمل السِّياسي: «كُلنا بريئون من هذا المعنى من السياسة، وكل معنى سياسي هذا لا ربط له بنا، لا نستفيد من السياسة» (الصَّدر، منبر الصَّدر)، ينصح بالتقية من مخاطر العمل السياسي: «أنت إذا ذهبت أو عملت أيّ شيء، أو قلت أيّ شيء على خلاف التقية إذن أنت لا دين لك»(المصدر نفسه)، قال ذلك ناصحاً المصلين خلفه بالامتناع عن المشي إلى كربلاء في الزِّيارة الأربعينية، وكان العهد السَّابق يخشى توظيفها سياسياً.
خلف محمد محمد صادق الصَّدر لولده مقتدى تياراً واسعاً، الغالب منهم مِن البسطاء، قد يبدو اسم «مقتدى» غريباً على أسماء أصحاب العمائم، لكن والده سماه تيمناً باسم فقيه العهد الصَّفوي علي الكركي (ت1534)، وكان يُعرف بـ«مقتدى الشِّيعة»، هكذا أرّخوا له، وقيل لدوره في نشر المذهب الشِّيعي الإمامي في ذلك العهد (التَّنكابي، قصص العلماء).
ردَّ مقتدى بعد قتل والده وأخويه على مواساة السّلطة واهتمامها به وأسرته، برسالة إلى صدام حسين (قُتل 2006)، ناداه بها بالقائد الفذ، نشرتها صحيفة «القادسية» (2/3/1999)، فحينها لم يكن لمقتدى موقف سياسي ولا موقع ديني أو اجتماعي، ولا خلال غزو العراق، إلا أن الاسم فجأة برز في الإعلام عندما قُتل عبدالمجيد الخوئي، في اليوم التَّالي مِن إعلان سقوط النظام (10/4/2003)، وما زالت القضية تلبسه وتلبس جماعته.
تلفع مقتدى الكفن تشبهاً بأبيه والأخير تشبهاً بمحمد مهدي الخالصي (ت1963)، وتجمع حوله الأتباع، الكثير منهم مِن الأجهزة التي حُلت، ومِن تلاميذ والده المعممين، وفجأة وجد نفسه قائداً! ورث كل شيء عن أبيه حتى العبارات، والفتاوى، بما خص منع لعبة الكُرة، والإكثار من عبارة «إن صح التعبير»، و«كلا كلا» وغيرها، وأخذ يُقلده في الخطابة، أما عن تشكيل واسم جيش المهدي فكان معروفاً مِن قبل، وأُعدم مَن أطلق الاسم، صار جيش المهدي سلطة في فراغ السلطة، هيمن على المصالح العامة في أكثر من منطقة.
قدم مقتدى نفسه وطنياً بالعداء للأميركان، مع أن دباباتهم فتحت له باب النُّفوذ والثروة، فسرعان ما دخل السُّلطة، قدماً فيها وأخرى في المعارضة، ضد الفاسد وله مكتب اقتصادي ووزراء متهمون بالفساد، مع التظاهرات ويعمل على إنهائها، حصل على سمعةٍ عند خصوم إيران عندما نادى «إيران بره بره»، لكن سرعان ما تراجع! كالزئبق لا يثبت في كف حامله، يريد النفوذ داخل السّلطة ويريد شعبية القائد المجاهد.
لكن في نهاية المطاف، صعب عليه الاستمرار في هذا التَّناقض، في وقت ضعف السلطة وتدهور الدَّولة، بعد تشظي جيش المهدي إلى جيوش سماها بالوقحة، ثم مارس دورها مع التَّظاهرات الأخيرة عبر أصحاب القبعات الزُّرق، بعد أن مُنع من اختراقها، كي يحركها ويوقفها متى أراد، أُكتشف أن تياره جهاز قابل للاستخدام، فبعد فشل «القنص» في تبديد التَّظاهرات، جاء دوره للانقضاض عليها.
لم يكن العيب كله في مقتدى شخصياً، إنما الزَّمن الخاوي لا يلد غير هذا المستوى مِن القيادة. نشأ مقتدى في ظل الحصار والغزو، فقُذف به قائداً من دون مقدمات وعناء، وقد وصف هذا الزَّمن، عندما صاح بأتباعه: «جهلة جهلة جهلة»، وهم يردون بالصلوات، متبركين بالكلمات المتناثرة مِن «الفم المقدس»، كان نموذج مقتدى الخلاصة المعكوسة لآل الصَّدر الأوائل، لكن هذا الزَّمن الخاوي، الذي أفرز مثل هذا القيادي، أخذ يتعافى، أنتج الآلاف المؤلفة ممَن انقلب على عبارة «جهلة جهلة جهلة»، بوعي وطني متقدم فاجأ العالم بشعار «أريد وطناً».