رشيد الخيُّون يكتب:
صلاة الوزير الخاقاني
ليست هناك تجارة مربحة أكثر من “الدّين”، أو لنقل “التَّدين”، فلا رأس مال يخسره صاحبها، غير “الدِّين” نفسه، فإذا ذهبت إلى تاجر وساومته على سعر بضاعته، فسيحلف لك بأغلظ الإيمان أنه لا ربح له فيها، وعليك تصديق ذلك، وتراه يتصدر الصفوف للصلاة، ويقبح مَن لم يسرع إلى المسجد، ومَن يكسر صيامه، لكن كل هذا الدين للإعلان عن “التدين”، فهو بالنسبة له حاجة اجتماعية، وكلما كبر الموكب الحُسيني أو ساحة الذّكر والمديح الصوفي كلما زادت منزلة صاحبه، وهذا خلاف تدين معروف الكرخي (ت 200هـ)، عندما قدم له أحدهم طعاما، وكان صائما، فتناول منه، لأنه لا يُريد الجهر بصومه وبالتالي بطلانه، هذا ما ورد في “مناقب معروف الكرخي”.
غير أن صلاة الوزير شيء آخر، وهي إقناع العامة بوزارته وشخصه، فمثلما يحاول خواص السلطان التقرب إليه بحمل أجناس من الرعية على التصفيق والهتاف، والتمجيد نفاقا، واستحسان المرذول من أفعاله، ظهر بين أصحاب الأمر مَنْ يغني معهم إن غنوا، ويرقص في محافلهم إن رقصوا، ويميل إلى طريقة تعبدهم، مهما هبطت أو علت. يلطم الصدر في عاشوراء، أو ينود في محفل الذكر.
كان وزير المقتدر بالله العباسي (قتل 320هـ) أبوعلي الخاقاني يسعى إلى التقرب من “قلوب الخاصة والعامة، فمنع خدم السلطان، ووجوه القواد أن يترجموا رقاعهم بالتعبّد، ويتقرب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد على الطرق. فكان إذا رأى جمعا من الملاحين، أو غيرهم من العامة، يصلون في مسجد على الشط قَدمَ طياره (زورقه)، وصعد وصلى معهم”.
قال مسكويه في “تجارب الأمم”، “فاتصفت بأفعاله وذلت”. وطلبا للشعبية “إذا سأله إنسان حاجة دق صدره وقال: نَعم وكرامة” حتى سمي بدق صدره!
أقول لا ضير من النزول إلى الرعية، في صلاة أو تسهيل أمر، لكن الضير باستغفالهم، ولا نعلم بنية الوزير الخاقاني هل كانت مسايرة واستغفالا، أم سجية لا سياسة وصناعة، إلا أن ذل الوزارة لا يعني غير الأمر الأول. في وضع العراق الحالي، وبلدان أُخر، صار الإجهار بالتدين بضاعة، أخذت تبور مع طول الزمن، ربّما حصد أصحابها محصولها لزمن محدد، ولكن بعدها ضاق الخناق عليهم، وانفرط العقد بينهم وبين الله، من قبل الناس، وهنا لمعروف الرّصافي وقد قالها مبكرا “أُحبولة الدين ركت من تقادمها/فاعتاض عنها الورى أُحبولة الوطن”؟ انتهى وزيرنا الخاقاني مقبوضا عليه وابنيه، واعتل إثرها ومات، ولم تفده صلاة الجاه والمصلحة.