سمير عطا الله يكتب:

ما بدأته شهرزاد خانم

لست واثقاً تماماً بالطبع. وأعتقد أنّ أدوات الاستدراك تظهر من مظاهر علوّ النفس وحسن التربية. لكن يخيَّل إليّ، مع البدء بالتحدّث عن مسلسلات رمضان، أنّ المسألة كلّها من اختراع السيدة المعروفة باسم شهرزاد، مجهولة باقي الاسم. فقد كان عليها، أوّلاً، أن تخترع لنفسها ملِكاً، من أجل أن تحدّد هي مدّة المسلسل وفصوله، وخصوصاً حبكات السرد ولحظة الإثارة. وقد أبقت شهريار صاغياً الليالي، مسامحاً لأجلها جميع النساء. لكن هو أيضاً لم يعترف بإدراك الحيلة، وترك الرواية إلى مخيّلتها. وسمعه أحد أصدقائه يوماً يقول في إحدى المآدب: «دعها تتخيّل ما تشاء، إنّ ذلك يوفّر علينا قتل الخائنات».

وتدخّل أحد الجلساء المعتادين قائلاً: «لكنّ المشكلة يا سيّدي في أنّها بدأت تبالغ وتخترع، وأحياناً تفقد السياق». فاعترضه الملك ساخراً من ادّعائه وقال له: «وما همّك أنت؟ هل أنت ناشر أم منتج؟ ثم ألا تدري أنّه مجرّد مسلسل يمرّر الليالي ويحلّي الأمالي؟».

منذ ذلك الوقت، أصبحت تلك الجملة شعار المنتجين والمخرجين في كلّ المراحل. وحاول النقّاد وضع بعض الجدّية، من باب التفلسف، فتدخّل شهريار نفسه قاطعاً: «طرّوها (من طراوة) شوي شباب، ألا يكفي الناس ما تراه في الأخبار؟» وانصرفت شهرزاد، بتشجيع من هذا الرأي السديد، إلى تلطيف حكاياتها وتخفيف البكائيّات. وكما هي عادتها اللطيفة، زادت قليلاً من البهار والفلفل. وطفقت في الأسواق تتبضّع حلويات ومكسّرات الموسم. وأرسلت خدمها في شوارع بغداد عند أشهر الحلوانيين، يوصونهم بالإكثار من ماء الورد، ولو كان الموسم شحيحاً هذه السنة.

اكتشف شهريار بعد سنين أنّه بدأ شيئا لا نهاية له. فأحبُّ شيء عند الناس الحكاية. وأحبّ ما فيها – تماماً كما في الشِّعر – أكذبها. و«لا توصي حريصا»، كما تقول العامّة. وتحوّلت العواصم العربية إلى استوديوهات تتنافس بالحديث والقديم معاً. وينطبق ذلك انطباقاً على «باب الحارة» الذي لا يزال يجدّد نفسه برمي المزيد من الطرابيش عن الرؤوس الغاضبة. بعض المحطّات، وربّما جميعها (حكمة الاستدراك)، تعرض ثلاثة مسلسلات في المساء، ومثلها، ثلاثة مُعادة في النهار.

ويُعتذر عن الباقي بسبب محدودية الليل والنهار. ولكن لا يمرّ عام من دون ظهور تحفة فنّية جديدة أو أخرى. وصارت المسلسلات تصنع النجوم أحياناً بدل السينما في الماضي. وينطبق ذلك على الإنتاج والمخرجين. وعلى تطوّر التصوير والألوان، بعبقريّة لم تخطر يوماً للستّ الهانم التي بدأت الحكاية كلّها.