فاروق يوسف يكتب:
إنهم رعايا وليسوا مواطنين
ينصّ الدستور العراقي الذي كُتب بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 على أن العراق دولة مكونات طائفية وعرقية. أي أن سكانه لا يشكلون شعبا واحدا، ولا يمكن أن يجمع بينهم سوى إطار قانوني هو الدولة.
بجرة قلم كما يُقال محي كل شيء. المجتمع والوطن معا، وما بينهما تاريخ من الانتماء العريق والأصيل الذي يمد جذوره عميقا في الأرض.
لذلك لم يكن هناك مانع في ذلك الدستور فيما لو اختارت تلك المكونات أن تمضي في حال سبيلها إذا ما تعذر عليها التعايش فيما بينها. ودليله في ذلك أن الأكراد لا يمكنهم القبول بهيمنة العرب عليهم، كما أن العرب السنة لا يمكنهم القبول بحكم العرب الشيعة.
كان ذلك التقسيم صناعة، غير أنها أخذت طريقها إلى الواقع بقوة القانون.
ماكنة الكذب كانت هائلة في إنتاجها الكثير من الحكايات التي تصبّ في هدف واحد هو الضرب على وتر الطائفية والعرقية. لقد كان الشيعة والأكراد مظلومين في العهد الذي كانت هناك فيه دولة عراقية. “ولكن هل كانت تلك الدولة سنية المذهب والتوجه الاجتماعي؟” لا أحد يجيبك.
سيكون ضروريا أن تستمرَّ الكذبة.
حين انتفضت المحافظات ذات الغالبية السنية بسبب سياسات نوري المالكي في التمييز والعزل والحرمان والإذلال، تم النظر إلى تلك الانتفاضة السلمية باعتبارها نوعا من الحنين إلى السلطة التي زالت بزوال الدولة التي كان السُّنّة يتربعون على عرشها ويتحكمون بمفاصلها.
وكانت تلك كذبة جعل منها المالكي مسوغا لقمع تلك الانتفاضة بطريقة وحشية، بحيث سُبيت مدن غرب العراق وهُدمت وأبيد الآلاف من سكانها، وألقي بآلاف أخرى في المعتقلات.
المفارقة المؤلمة في الأمر أن أولئك المنتفضين لم يطالبوا بحقهم في الانفصال الذي كفله الدستور الجديد، بل سعوا إلى استعادة حقوقهم باعتبارهم مواطنين أصلاء وليسوا هامشا مستبعَدا وفائضا.
كان خطأهم أنهم لم ينسقوا مع المحتل الأميركي كما فعل الأكراد. ولو أنهم فعلوا ذلك لحَظُوا باحترام النظام الطائفي ولبقيت أرواحهم مصانة ومدنهم عامرة. كانت عودتهم إلى مبدأ المواطنة جرما مشهودا استحقوا بسببه ما لحق بهم من عقاب يرقى إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية.
يعيب الكثيرون على الأكراد ما فعلوه حين أداروا ظهورهم للدولة العراقية واكتفوا بعلاقة هي عبارة عن امتيازات يحصلون عليها من غير أن تكون لبغداد سلطة على إقليمهم المستقل. لهم نسبة ثابتة من الوزراء والمدراء العامين في الحكومة العراقية، كما أن لديهم ممثليهم في مجلس النواب بالإضافة إلى حصتهم الثابتة في إيرادات النفط العراقي.
مقارنة بما شهدته المدن السنية من كوارث، يمكن القول إن الأكراد فعلوا الصواب وجنبوا أنفسهم ويلات صراع عرقي كان من الممكن أن يعيدهم إلى نقطة الصفر التي فارقوها منذ عام 1991.
بسبب نزعتهم الانفصالية المتأصلة عرف الأكراد ما هو المطلوب.
كان واضحا أن الاحتلال في سياق منظومته الفكرية قد عمل على أن يكون فاصلة بين عراقيْن. العراق التاريخي الذي ينتمي إليه شعب موحد بتنوع طوائفه وأديانه وقومياته، والعراق الجديد الذي هو عراق الطوائف والأديان والأعراق التي يعيش كل منها في عزلة تمنع اتصاله بالآخر إلا لأسباب نفعية.
يدعي الأميركان أن العراقيين أرادوا ذلك حين تم إنشاء مجلس الحكم وقبله في مؤتمر المعارضة الذي عُقد بلندن عام 2002 برعاية وكالة الاستخبارات الأميركية.
ولكن مَن هم أولئك العراقيون الذين استند الأميركان إلى رأيهم؟
إنهم رعايا دول أخرى وليسوا مواطنين. لذلك ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا مبشرين بمشروع عراق المكونات الذي لا يمت بصلة للعراق التاريخي.
الذين يحكمون العراق اليوم هم أولئك الرعايا الذين فقدوا القدرة على التعامل إيجابيا مع مبدأ المواطنة.