د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
أبناء عدن رجال الأزمات !!!
يمتاز سكان عدن بسرعة البديهة وخفة الظل كما يمتازون عن غيرهم بالأناقة والذوق الرفيع في اختيار ملابسهم ،وقد يبدو لمن يراهم أول وهلة أنهم كلهم من الأغنياء والمترفين ، ولكن من يعيش بينهم يكتشف أن تلك المظاهر لا تنم عن الغنى وكثرة المال بل على حبهم للحياة والجمال والأناقة ولو أقتطع الرجل من مصاريف بيته ، ويمتلك العدنيون روح الفكاهة والنكتة اللاذعة وسرعة البديهة وروح المرح وتتجلى تلك الخصال عند الأزمات والخطوب التي تداهمهم وخاصة في ذروة مصاعب حياتهم اليومية وللتعبير عن حالة الرفض لواقعهم المرير.. ولم يجدوا من وسيلة أفضل من
السخرية من كل شيء للتعبير المبطن لرفض الواقع .. وخاصة عندما تتوالى عليهم الكوارث و الأزمات وهي ما يعبّر عنه في علم الاجتماع بـ"سيسيولوجيا النكتة"، باعتبارها مرآة تعكس واقع مجتمع غارق في الأزمات والمشاكل، وهو ما فسّره الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" بـ"محاولة لقهر القهر". والنكتة هي "سلاح الصامتين" في الثقافة الإنسانية لأنها وسيلة من وسائل التعبير الاجتماعي، بل هي عادة تكون وسيلة للنقدّ!ّ!
وتجلى ذلك عندما عاش سكان عدن ساعات عصيبة جراء المنخفض الجوي الذي ضرب المدينة، وتسبب في جرف مئات السيارات وتدمير نحو 80 منزلاً بشكل كلي وجزئي، وأكدت مصادر حكومية أن أعمال الإنقاذ المستمرة منذ صباح الأربعاء الماضي كشفت عن ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 14 شخصاً !!
ولم يجد أبناء عدن من وسيلة غير السخرية والنكتة للتعبير عن معاناتهم ، وهي وسيلة التعبير الشعبية الأكثر انتشاراً وتداولاً بين الناس وخاصة في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بعدن ، وهي متنفس نقدي ساخر ، وتندرج في إطار الأدب السردي الذي يعتمد على الإيجاز ، وخاصة عندما تشتد أوجاع الناس وتطحنهم الأزمات يهربون عادة إلى نسج النكات وإنتاج القصص الطريفة التي تضحكهم وتخفف من معاناتهم وتروح عنهم من قسوة وبطش هذه الأزمات والمتاعب التي يواجهونها!!
وفي كارثة السيول الأخيرة لم ينقذ عدن الجيش ولا الأحزمة الأمنية من كارثة الأمطار والسيول بل أنقذها أبناؤها الشباب بسواعدهم العارية وحبهم وإخلاصهم لمدينتهم ،وهم من تحمل وحدهم عناء إنقاذ مدينة عدن رغم أنهم كانوا أكبر المتضررين من جراء تلك الأمطار والسيول، ويمتاز شباب عدن بخفة الدم وروح الفكاهة والروح القتالية العالية عندما خرجوا يساعدون بعضهم بعضا وأنقذوا بعض من جرفتهم السيول وتشابكت أياديهم الغضة معا لإنقاذ بعض من جرفتهم السيول ومنهم سيدة عجوز وضعوها في بقايا ثلاجة قديمة على شكل قارب صغير وأخذوا يدفعونه وهم يرددون الأهازيج
في مهرجان من الحماس وقد ظهرت على وجوههم ملامح السعادة والضحك يدارون شعورهم بالألم لغياب فرق الإنقاذ من الجيش والأمن بشكل فاضح ومشين وقد اختفت دورياتهم التي لا تشاهد إلا للاستعراض في الشوارع أو حماية البلاطجة والمتنمرين والتعدي على ممتلكات المواطنين!!
وفي جميع دول العالم تقوم الجيوش بإنقاذ مواطنيها عند الكوارث ومساعدتهم بتقديم الغذاء والدواء وإيواء المتضررين في معسكرات ميدانية وتقوم بفتح الطرقات وإعادة تأهيل المواطنين لتجاوز الأزمات والكوارث إلا في اليمن !!
ومن العبارات الساخرة المكتوبة على حافلات نقل الركاب في اليمن، تستوقفك عبارة “اليمن كوكب المغامرات. سنموت بعد قليل”، والتي تأتي للتعبير عن رفض الحرب”.
إلى كتابة عبارات طريفة على الحافلات تشبه التوقيع في حالة التكثيف اللغوي الذي يمتاز به، والذي يحمل عدة دلالات سياسية ونفسية، حيث كتبوا عبارة ”إذا رأيت كل شي جميلاً، فاعلم أنك سكران”، للإشارة إلى أن واقع اليمن لا يبتسم إلا للقلة القليلة من تجار الحروب والمستفيدين منها!!.
وبالمجمل، يلجأ الإنسان اليمني عامة والعدني خاصة للكتابة على الحافلات ووسائل النقل العامة كوسيلة نفسية للتخلص من حالة الكبت والقهر التي يعاني منها، وللتنفيس والتعبير عن حالة رفض الواقع المر الذي يعيشه، وهذا الواقع قد يكون واقعاً سياسياً، أو اجتماعياً، كما أنه بذلك يتحرر من المساءلة القانونية نتيجة استخدامه للترميز والتعميم في مضمون رسالته التي يريد إيصالها.
وقد أشار الجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا الأسبق إلى ذلك فقال : كان أكثر ما يزعجني أن النكتة السياسية أو الرسوم الكاريكاتورية لم تعره أي اهتمام في أواخر حكمه فقال : لقد فقدت شعبيتي في فرنسا فانا لا أرى نفسي في الرسوم الكاريكاتورية ولا اسمع اسمي في النكتة التي تنتقدني !!.
ويرى علماء الاجتماع وعلماء النفس : أن النكتة تعتبر دليلا على حيوية الشعب واهتماماته ورغبته في تجاوز الأمر الواقع وعدم الاستسلام له !!
واغلب النكت السياسية ذات السخرية السوداء موجهة ضد القائمين على أمور البلاد وخاصة من هم في أعلى الهرم إلى قاعدته حيث يوجه الشعب رسائل مشفرة ينفسون بها على أنفسهم بوضعهم في إطار مضحك !!
وتنتج أهمية السخرية في الأساس عن كونها وسيلة دفاعية تجعل البشر يحاربون اليأس بالدعابة، ويواجهون خطر النهايات بأسلوب تهكمي، ولذلك فإن السخرية الأدبية تتطلب عدة إبداعية تجمع بين سعة الأفق، وشمولية الثقافة، وحضور البديهة، وفي الغالب يكون مصدر النكتة مجهولاً؛ لأنها تنتج في تجليات إنسانية عابرة، كرد فعل لأعمال ومواقف مرفوضة ولكن (المضحك) في النكتة عند علماء الاجتماع هو الذي لا يخرج عن المفهوم (الإنساني) في الإثارة ولفت الانتباه، أي بما لا يتجاوز مشاعر وأحاسيس الناس، ولا يتعرض لدخائل الأشخاص والأسر، ولا يمس كرامتهم وإنسانيتهم!!.
وأخيرا هكذا تتجلى النكتة السياسية في ظل الأزمة اليمنية وتعالج بعضا من معاناة الناس وسخطهم على مجريات الأحداث وفوضى الحياة السياسية والعامة , والنكتة السياسية تظهر عادة في المجتمعات نتيجة فشل السياسات العامة للدولة ليس هذا فحسب بل بانعدام سلطة الدولة وسيادة القانون ويتوارى السفاحون والقتلة تحت الشعارات لقتل الناس وتدمير الوطن !!.
د.علوي عمر بن فريد