طارق أبو السعد يكتب:
"الإسلام هو الحل".. شعار أم مشروع؟
الجماعات الإسلامية تدّعي، باطلاً، أنّ المسلمين لم يعودوا مسلمين بشكلٍ صحيحٍ، وأنّ المجتمعات المسلمة فقدت حياتها الإسلامية الصحيحة، نظراً إلى اتصالها بالغرب، وأنّ غاية وجود هذه الجماعات هي إعادة الحياة الإسلامية للمجتمعات، (فكراً، وسلوكاً، ومظاهر، وحكماً)، وانطلق مفكّرو الجماعات من هذه الفرضية الخاطئة؛ ليؤسسوا مشروعهم الفكري، وآلية عملهم في المجتمع، بالتالي، ترتيب الأولويات لديهم، وهذا الافتراض ليس خاطئاً فحسب؛ بل هو خطيرٌ جداً، أيضاً، فهو يؤسس للتكفير، ويؤسس لجبر الناس والمجتمعات على تبنّي رؤية فقهية لتيارٍ واحدٍ، ولو بقوة السلاح، قد نحتاج إلى حديثٍ طويلٍ، نعرض فيه تطور هذه الفكرة، وما آلت إليه من سفك دماء مصانة، لكنّ المهم أن نبدأ أولاً بمناقشة ملامح هذا البديل المقترح، مع محاولة الإجابة عن سؤال: لماذا يصرّ الإسلاميون (بأطيافهم الثلاثة)، على تقديم أنفسهم كبديل حضاري؟ ومحاولة اكتشاف مدى صحة ادعائهم أو خطئه، فقد مضى قرابة القرن على ظهور الجماعات الإسلامية المنظمة في جمعيات أو مجموعات سرية، ويجب أن ندرس ماذا قدموا لنا، وأن نضع مفاهيمهم على طاولة التشريح، ولعلّ أول سؤال يطرأ على ذهن المواطن المسلم العادي، هل نجحوا في تعريف الحياة الإسلامية التي يقصدونها؟ وحتى تلك التعاريف الهشة التي ساقوها، لماذا لم يفلحوا في إيجاد وابتكار آليات يمكن أن تعيد هذه الحياة الإسلامية المفقودة في الواقع المعيش؟ هل نجحوا أم فشلوا في توليد أطر وأوعية مؤسسية تقوم بتنفيذ رؤيتهم للحياة الإسلامية؟ الحقيقة أنّ ادعائهم بأنّ ما نعيشه ليس إسلامياً، لم يلق قبولاً من عموم المسلمين؛ بل ردّوا بسؤال؛ إذا كان ما نعيشه ليس إسلاماً فما البديل؟ كانت إجابة التيارات الإسلامية؛ إنّ البديل المقترح هو حياة إسلامية راشدة، يحبها الله ورسوله، أي ما أسموه (البديل الإسلامي) فما هو هذا البديل؟
الجماعات الإسلامية تدّعي بأنّ المسلمين لم يعودوا مسلمين بشكلٍ صحيحٍ والمجتمعات المسلمة فقدت حياتها الإسلامية الصحيحة
عبر الإخوان المسلمون عن هذا البديل في شعار انتخابي حزبي عاطفي، هو (الإسلام هو الحل)، وعبّر السلفيون عنه بمقولة "المنهج الرباني مقابل المنهج البشري"، وعبرت عنه جماعات الجهاد بـ "الحاكمية ضد الطاغوتية". اختلفوا في الألفاظ واتفقوا في المضمون، وكثرت الدعوات إلى عودة الإسلام، وانتشر المتحدثون عن مبادئه، وقيمه، ونظمه، وثقافته، وكأنّ المسلمين يجب أن يتعرفوا على الإسلام من جديد، غلب على كثير من المروجين استخدامهم لعبارات غامضة، مثل: الحاجة إلى أسلمة العلوم، أسلمة المعارف، أسلمة السياسة والحكم، أسلمة الإعلام، ...إلخ. ثمّ لا يزيدون عن هذا الحديث بحرف، ولا يقدمون أيّ تفاصيل عن ذاك المنهج الإلهي، أو مكونات البديل الإسلامي، أو وسائله، أو طريقة تنفيذه، أو آلية تعديله وتقويمه، إذا ثبت فشل بعض أجزائه، أو قصر عن أداء المهمة. يلاحظ أيضاً أنّهم، أي دعاة التيار الإسلاموي والمبشرين بالبديل الإسلامي، انشغلوا بنقد الحضارة الغربية، ومن زاوية عدائية بحتة، باعتبارها النموذج الحضاري القائم، الذي يدير العالم، واعتبروها امتداداً للصراع الصليبي في القرون الوسطى، فانشغلوا بإثبات فشلها، والتنبؤ بسقوطها، وانطلقوا من فرضية ثانية؛ هي إذا كان هذا المشروع الغربي الحضاري، يسير إلى زوال، فلا بدّ من أن يكون المشروع الحضاري البديل هو المشروع الإسلامي، دون العمل على امتلاك أيّة أداة من أدوات الحضارة، وروجوا في أوساط المجتمعات العربية والإسلامية؛ لأنّ العالم يتعطّش للحلّ الإسلامي، فكتبوا تحت عنوان (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)، في رؤيةٍ بائسةٍ، حاولوا فيها إثبات أنّ العالم هو من خسر بانحطاط المسلمين، وعندما أثيرت تساؤلات وجودية، مثل: إذا كان الإسلام والمسلمون يملكون كلّ هذا المخزون الحضاري، فلماذا نجد تناقضاً بين المشروع الإسلامي وواقع المسلمين؟ فقام التيار الإسلاموي بتوجيه النقد لمجتمعاتهم، عبر ترديد مقولات أصبحت شائعة ومعروفة، حتى في الخطاب الثقافي، مثل أنّ ما نعانيه من ظلمٍ، ومن غياب العدالة الاجتماعية، ومن تفوق الغرب، إنّما جاء نتيجة تنحية المشروع الإسلامي عن الحياة (السياسية بشكل رئيس)، وأنّ الحكّام، وأتباعهم، والصفوة من المتغربين في المجتمع المسلم، هم من يعارضون المشروع الإسلامي. ومع خوض الإخوان المسلمين الانتخابات، تحت شعار (الإسلام هو الحل)، تحوّل المشروع إلى شعار، ونظراً إلى افتقار نظرية (البديل الإسلامي)، لأية مؤشرات للنجاح، وفشلها في تقديم أية ملامح لمشروع البديل الحضاري الإسلامي، اكتفى برفع الشعار، ومهاجمة كلّ من يثير أيّ تساؤل حقيقي حول مضمون الشعار، سمح لهم العمل السياسي، تحت هذا الشعار المعتمد على العاطفة. اكتساب الجماهير المتحمسة للتغيير الثوري، والمستعدة للتضحية، بالنفس وبالغير، من أجل المشروع، (غير الموجود أساساً)، وبسبب هذه الحماسة غير المنضبطة، لم ينتقل الخطاب الإسلاموي إلى مرحلة الصياغة العلمية لأسس وإستراتجيات العمل من أجل تعيين وتجسيد البديل الإسلامي؛ لأنّ مرحلة الصياغة تحتاج إلى عقود وأجيال كي تصل إلى صيغة حضارية جيدة، التي في الغالب، ستتشابه إلى حدّ كبيرٍ مع الشكل الحضاري الحالي، بالتالي، تسقط شرعيتهم، ولعلّ مثال البنوك الإسلامية خير دليل على ذلك، فقد كانت الدعوات لإنشاء اقتصاد إسلامي، هي الدافعة لإيجاد بنك إسلامي، ولو بالاسم، لكنّ المعاملات الاقتصادية والمحاسبية المجردة، تقريباً واحدة، لهذا لم تتمكن من أن تزيح البنوك الطبيعية من الوجود، وهذا خطير، في حدّ ذاته، على مشروعهم (البديل الإسلامي). والجماهير المتحمِّسة التي آمنت بوجود هذا البديل، من خلال خطب المواعظ الرنانة، يمكن أن تنفض عنهم، فاستمروا في رفع الشعار، واستمروا في نقد الحضارة الغربية، بكلّ منتجاتها الفكرية والمؤسسية.
لم يفطن الإسلاميون إلى أنّ الديمقراطية هي تطور إنساني يدخل في سياق التطور الحضاري للبشرية
إنّ تكريس الجهود لنقد الحضارة الغربية (القائدة والمهيمنة على العالم)، حجب رؤيتهم عن وجود عناصر إيجابية أنتجتها تلك الحضارة، وأصبحت قيماً وعلوماً إنسانية عامة، كان من الممكن الاستفادة منها، والمشاركة فيها، خاصةً أنّ هناك تيارات وأصولاً فكرية وسياسية، داخل المشروع الحضاري الغربي، تعمل على تغيير العالم، ليكون أكثر عدلاً ومساواة بين البشر، وهذا، في حدّ ذاته، مقصد إسلامي، مثل احترام حقوق الإنسان، والإيمان بالديمقراطية، وتداول السلطة، لذلك لم يؤمن الإسلامويون بالديمقراطية، كحلٍّ للتغيير السلمي، أو التعبير عن آراء الجماهير، واكتفوا بالموروث الإسلامي القديم، وهو الشورى، ولم يفطنوا إلى أنّ الديمقراطية هي تطور إنساني يدخل في سياق التطور الحضاري للبشرية، الغريب أنّ كثيراً من الجماعات الإسلامية تفتقر، في تنظيمها وعملها الداخلي، وحرمتها في المجتمع، إلى الشورى، حتى في إطار التعريف الإسلامي الماضوي، كما فشل أصحاب البديل الإسلامي في أن يوضحوا من هم المقصودون بالمشروع الإسلامي أساساً؟ هل هم أبناء الدولة بكل طوائفها من ديانات أخرى؟ أم هم دول العالم العربي المتاخم لبعضها البعض؟ وهل المطلوب اتحادهم في دولة إقليمية واحدة؟ أم هم دول العالم الإسلامي؟ وهل مشروعهم للعالم كلّه؟ إنّ ضرورة تحديد المقصود بالعالم الإسلامي والدول الإسلامية، والمقصودين بالمشروع والبديل، حجر أساس في المشروع، وإذا كان العالم الإسلامي أو النظام الإقليمي، يقوم على الدول الإسلامية فما هو المقصود بالدولة الإسلامية؟ هل هي الدولة التي يؤلف المسلمون 50% من سكانها فأكثر؟ أو الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية وتسودها القيم الإسلامية؟ أو تلكم التي يعلن دستورها أنّها دولة إسلامية؟ أو الدولة التي يكون رئيس دولتها مسلماً؟ أو هي تلك الدولة التي هي عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي؟ وبما أنهم لم يتفقوا، ففقدوا قيمة تحديد ملامح شكل البداية، هل هي الوحدة بين الدول العربية المجاورة لبعضها البعض، أم هي انصهار في دولة واحدة تضم كل الدول الإسلامية؟ مع العلم بأنّ العالم الإسلامي هو عالم اصطلاحي، أكثر من أنّه واقعٌ ملموسٌ، أو نظامٌ إقليمي فاعلٌ أو متفاعلٌ، كما أنّ فكرة ومفهوم النظام الإقليمي، لا تنطبق على العالم الإسلامي، فضلاً عن وجود فروق اجتماعية ولغوية واقتصادية، عديدة ومعقدة، بين المناطق أو الدول الإسلامية، تمنع هذا الانصهار، كما أنّهم لم يفهموا أنّ ثمة تقسيم للعالم الإسلامي على أسس القومية، أو على أسس مناطق جغرافية، وتجمعات، أو تكتلات بشرية.
إنّ هذه الإشكاليات جعلت من الصعوبة الاتفاق على مفهوم، أو تعريف محدد، للعالم المقصود بالبديل الإسلامي، يمكن استخدامه في التحليل العلمي للنظم السياسية والعلاقات الدولية؛ إذ لا وجود للبديل الإسلامي، من حيث مضمونه الفكري، سواء في المفاهيم أو الآليات، ولا من حيث المستهدفين بهذا المشروع، ولا يوجد اتفاق على من سيقوم بتنفيذ هذا المشروع.
إنّ ادعاء التيارات الإسلامية، بأنّهم يملكون بديلاً إسلامياً، سقط مع التجربة، ولم يبقَ منه إلّا بعض خطب حماسية، وشعار انتخابي.