طارق أبو السعد يكتب:

التناقضات بين خطاب الإخوان المسلمين وتاريخهم الحقيقي

القاهرة

يتيه الإخوان فخراً على كلّ الكيانات السياسية والدينية، بأنّهم وحدهم من يحملون بصدق همّ القضية الفلسطينية، وأنّهم وحدهم من انتبهوا لهذه القضية، فمرشدهم ومؤسس جماعتهم، حسن البنا، "بنباهته العبقرية التي لم يحظَ أحد من معاصريه بمثلها، أمر جماعته بأن يكون لفلسطين الأولوية في الدعاية المكتوبة والدعاية الشفوية، وأن تكون همّهم بالليل وبالنهار".


يكرّر الإخوان تلك المغالطات، معتمدين على موت أبطال حكايات المساندة الشعبية لفلسطين، والمشاركين فيها، والشهود عليها، إضافة لندرة الكتابة التي تؤرخ لتلك الفترة، من هنا ينفرد الإخوان بحكاياتهم المصنوعة و"بطولاتهم" في فلسطين، لكنّ الحقيقة تأبى إلا الظهور، ولو طال عليها الزمن. 
ظهرت القضية الفلسطينية على سطح الأحداث في عشرينيات القرن العشرين، بعدما دخلت القوات الإنجليزية فلسطين، وتوالت إليها هجرات الصهاينة، ووقف فريق كبير من اليهود العرب من غير الصهاينة ضدّ الهجرة إلى فلسطين، ومنهم رجال أعمال، وكانت الحركة الصهيونية تدعو اليهود من كلّ الجنسيات للهجرة إلى "أرض الميعاد"، وكانت هذه الدعوات لا تلقَ قبولاً كبيراً من اليهود العرب تحديداً، ولم تهاجر إلا فئات قليلة من فقراء اليهود أو الحالمين بمستقبل جديد.
يزعم الإخوان في تاريخهم أنّهم هم من اهتم بالقضية، وأول من نبّه إليها، وأنّهم وحدهم من حمل همّ الفلسطينيين، وأنّ القضية كانت مجهولة لدى الجمهور المصري، يقول هذا مؤرخ الإخوان، محمود عبد الحليم، في كتابه "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ"، الجزء الأول، ص 173: "ظلت قضية فلسطين، مع كلّ ما بذله الإخوان من سبيل لتنبيه الأذهان، شبه مجهولة، إلّا في حدود المساجد التي غشيها الإخوان بكلماتهم في أيام الجمعة".

وهذا تجنٍّ واضح على الحقيقة وسرقة واضحة لأدوار الآخرين، والحقيقة؛ أنّ الرأي العام المصري والصحف المصرية والجمعيات المصرية كانوا يحملون القضية الفلسطينية بكل صدق، وبالتأكيد دون منفعة خاصة، وفي كلّ الأحوال، كانوا أفضل من الإخوان، ولعلّ ما أشارت إليه الكاتبة د.عواطف عبدالرحمن، في كتابها الفريد "مصر وفلسطين"، المنشور ضمن سلسلة عالم المعرفة، يكشف ادّعاء الإخوان؛ حيث تقول: "انفردت الصحف المصرية بتغطية كثير من الجوانب التي ما تزال مجهولة في تاريخ القضية الفلسطينية، مثل العلاقات المصرية الفلسطينية، التي عالجتها بإسهاب على المستوى الرسمي، الذي تمثّل في زيارات المسؤولين المصريين لفلسطين، مثل: إسماعيل صدقي باشا، ولطفي السيد، ومكرم عبيد، وعلى المستوى الشعبي، الذي تمثّل في علاقات جمعيات الشبان المسلمين في مصر وفروعها بفلسطين وتطوّع نقابة المحامين المصريين بالدفاع عن الأحرار الفلسطينيين، الذين حوكموا في أحداث البراق 1929، ومشكلات العمال المصريين الذين تعرضوا للاضطهاد والطرد من جانب السلطات البريطانية في فلسطين".

كلّ هذا الاهتمام كان قبل أن توجد جماعة الإخوان المسلمين من الأساس، كلّ هذا الاهتمام الوطني والقومي والإسلامي، تطمسه الجماعة هكذا بكل بساطة من التاريخ من أجل أن يظهروا وكأنّهم هم فقط من يدافع عن القضية الفلسطينية.

ويا ليتهم كانوا مدافعين بحقّ عن القضية الفلسطينية، فبتحليل المواقف والأحداث التي شارك الإخوان فيها تحت مزاعم الدفاع عن الفلسطينيين، نكتشف أنّهم أضروا بالقضية أشدّ الضرر، عندما حوّلوا مضمون القضية، وغيروا جوهرها، ممّا أضرّ بها ضرراً بالغاً، إلى الآن، فارتدّت سهامهم إلى صدر القضية الفلسطينية.
فحقيقة القضية الفلسطينية وجوهرها؛ أنّها "قضية مغتصب صهيوني متطرف لفلسطين"، وحوّلها الإخوان إلى "قضية صراع بين الأديان، بين الإسلام والمسلمين من جهة، واليهودية واليهود من جهة أخرى"، لم يستفد الفلسطينيون ولا فلسطين من تحويل طبيعة المعركة، المستفيدون الوحيدون من هذا التحول هم؛ الصهاينة ودعاة الهجرة إلى فلسطين والإخوان المسلمون.

يقول محمود عبد الحليم، في كتاب "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ"، الجزء الأول، ص 173: "دعونا إلى مقاطعة المحلات اليهودية في القاهرة، وطبعنا كشفاً بأسماء هذه المحلات وعناوينها، والأسماء الحقيقية لأصحابها، وذيّلنا الكشوف بهذه العبارة: "القرش الذي تدفعه لمحلّ من هذه المحلات إنما تدفعه في جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحاً يقتلون به إخوانك المسلمين في فلسطين".
استفادت الحركة الصهيونية بشكل غير مباشر، عبر الحرب الاقتصادية التي شنّها الإخوان المسلمون على رجال الأعمال المصريين من اليهود، والذين في واقع الأمر لا يرغبون في الهجرة من مصر! ولا يقبلون بالدولة الصهيونية، ولهم مواقف ضدّها، مع تنظيم عمليات اعتداء على مساكن اليهود البسطاء في حاراتهم، بزعم أنّهم يشاركون في الاعتداء على إخواننا العرب والمسلمين في فلسطين، كلّ هذا جعل كثيراً من اليهود يغيرون موقفهم من إسرائيل، وهذا، بلا شكّ، كان في صالح الحركة الصهيونية، وليس في صالح حركة المقاومة الفلسطينية.

واستفاد الإخوان؛ فقد أصبحت متاحاً لهم الحركة والتجوال بحرية في بقاع القطر المصري، مستغلين القضية الفلسطينية وتعاطف الناس معها، لتجميعهم، ومن ثم ضمّ عناصر للتنظيم أكثر، وللدعاية لأنفسهم أكثر، وتقديم أنفسهم كجمعية تهتم بقضية كبرى مثل القضية الفلسطينية.
في ذلك الوقت، وتحديداً في العام 1936، كان الإخوان في حاجة إلى قضية تهم المجتمع، وتكون عنواناً لهم، وسبباً في التفاف الناس حولهم؛ أي سحب جماهيرية القضية لصالحهم، وهذا ما حدث بالفعل.
لكن، الاستفادة الأخرى، والأهم، كانت الاستيلاء على أموال التبرعات، فيقول محمود عبد الحليم في ص 174: "أحبّ أن أنبّه القارئ بهذه المناسبة إلى أنّ النقود التي كنّا نجمعها لفلسطين من المساجد والمقاهي والبارات، لم يكن القصد من جمعها إعانة إخواننا المجاهدين الفلسطينيين!  فهم كانوا من هذه الناحية في غير حاجة إليها؛ لأنّ أغنياء أهل فلسطين من التجار كانوا وراء هؤلاء المجاهدين، وقد حضر السيد أمين الحسيني في بعض زياراته للمركز العام للإخوان المسلمين، ومعه بعض هؤلاء التجار، وعرّفنا بهم "هذا قوله بيده إنّهم لم يرسلوا تلك التبرعات بحجة أنّ أغنياء فلسطين يتولون هذا الأمر، لماذا إذاً كنت تدير حملات لجمع الأموال؟ يقول عبد الحليم: "وأضيف الآن إلى ذلك أنّ تلك المبالغ لم تكن ترسل إلى المجاهدين". 
فأين كانت تصرف؟ يحاول عبد الحليم هنا أن يجمّل ما قاموا به، فيقول: "كانت تصرف في شؤون الدعاية للقضية الفلسطينية"، وطبعاً مفهوم أنّ مكان تجمّع التبرعات هو في المركز العام للإخوان المسلمين، أما تبرير عبد الحليم بأنّ تلك التبرعات كانت للدعاية فهو مشكوك فيه، فهو نفسه يقول في الصفحة نفسها؛ إنّ اللجنة العربية العليا كانت ترسل لهم مبالغ طائلة لزوم الدعاية، ربما هذا يبرّر تدفّق الأموال على المركز العام للإخوان المسلمين بشكل مريب، مما استدعى أن يزعم البنا أنّ هذه أموال وتبرعات الإخوان، لكن أليس اعتراف مؤرّخ الإخوان بأنّ حملات التبرع لم تكن تذهب إلى المجاهدين، دليل إدانة واضحاً!