طارق أبو السعد يكتب:
هل استعلاء الإخوان على الناس فكرة طارئة؟
كثيراً ما يتساءل الباحثون عن حقيقة الاستعلاء عند جماعة الإخوان، وهل هي مكوّن أصيل في منهجهم التربوي أم مجرّد فكرة طارئة لحقت بهم؟ وكيف تتمّ تربية الفرد الإخواني عليها؟ ولماذا لا يجد الباحثون في أدبيات الإخوان ما يدلّ على ذلك؟
منبع الإشكالية المنهجية يعود في الأساس إلى التصوّر الخيالي عن تنظيم الإخوان السرّي، فيحسب بعض الباحثين أنّ كل تعليمات قادة الجماعة مدونة ومكتوبة وبشكل واضح، وتصلح أن تكون مصدراً يُعتمد عليه في دراستهم للجماعة، وما يطرأ على أفكارهم من تغير، سواء بالتطور أو بالضمور، وللأسف النصوص التي يتوقعها الباحثون غير موجودة، ولن يجدوها بالوضوح المتوقع، ولكنها موجودة على ألسنة المربين المدسوسين بين جنبات زوايا المساجد، أو المنطلقين في دروس التنظيم السرّية، وهؤلاء يورثون أفكار الإخوان شفاهةً لا كتابةً، يستولون على عقول أتباعهم، فيغيرون من منظورهم للدين وللدنيا وللدولة، وللحقّ وللباطل، وللناس، خواصهم وعوامهم، وينتجون بتربيتهم، في الغالب، إرهابياً؛ ولو بشكل مؤجّل.
لعلّ فكرة الاستعلاء هي أشهر مكوّن فكري عند الإخوان تحوّل إلى سلوك، وأقر هذا المبدأ حسن البنا وأرسى دعائمه سيد قطب
ولعلّ فكرة الاستعلاء هي أشهر مكوّن فكري عند الإخوان تحوّل إلى سلوك، صحيح ليس عليه دلائل كثيرة، لكننا نجده متجسّداً في سلوكيات الإخوان. إنّ الاستعلاء على عوام الناس مبدأ أقرّه حسن البنا وأرسى دعائمه سيد قطب، وتولّى مربّو الإخوان تقديمه في محاضراتهم التربوية، مستغلين التراث وحكاياته، وتقديمه بصورة مخلّة، ويستخرجون منه الدلالات على صدق استعلائهم على عوام الناس، حتى بات سلوكاً وسمتاً إخوانياً بامتياز، ولو أنكره الإخوان.
بدأ حسن البنا غرس الاستعلاء على العوام، عندما أوهم أتباعه أنهم الأكثر فهماً للإسلام، وأنّ غيرهم متردد ونفعي، وأنهم وحدهم ورثة رسول الله، وأنّ العالم أجمع سيحاربهم، وعليهم ألّا يغتروا بأهل التدين وبصلاحهم، ولا بأصحاب الهيئات ورؤساء الحكومات، ولا برجال الأعمال ورؤساء الأحزاب، ولا بعلماء الدين من غير الإخوان، فالكلّ سيعادي الإخوان، لا لشيء إلّا لأنهم إخوان! فهم يحملون راية الرسول، عليه السلام، وصحابته الكرام، وسينتصرون كما انتصر، صلى الله عليه وسلم، وهم وحدهم من حباهم الله تعالى بفهم صحيح للدين!
بدأ البنا غرس الاستعلاء على العوام عندما أوهم أتباعه أنهم الأكثر فهماً للإسلام
هذه المعاني التي تتكرّر في رسائل حسن البنا وفي كلماته الشفوية كرسالة تربوية سرّية تسللت إلى وجدان أتباعه، إضافة إلى علميات تربوية معقدة يمارسها الإخوان على أتباعهم، فيعتقد عضو الجماعة أنه طالما في ركاب الجماعة، فهو أعلى من عوام الناس.
في نهاية أربعينيات القرن الماضي، ومع مغادرة حسن البنا المشهد، ظهر سيد قطب كأحد مفكّري الجماعة، فأوضح فكرة حسن البنا الخفية بمصطلح "الاستعلاء بالإيمان"؛ وليس المقصود بالإيمان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، فهذا الإيمان موجود عند جميع المسلمين، خواصهم وعوامهم، بل المقصود بالإيمان "الانتماء التنظيمي"، فالإخواني لا يستعلي على العوام بإيمان أو بعبادة، لأنّ من المتوقع وجود من هم أكثر علماً وأكثر تقوى وأكثر عبادة منه، بل يستعلي عليهم بانتمائه للجماعة، فغالب المجتمع مؤمنون؛ لكن ليسوا أعضاء بالجماعة.
ابتداع حسن البنا وسيد قطب لفكرة الاستعلاء بالإيمان سبّب الكثير من الانحرافات عند الجماعات الإسلاموية، فهي تبدأ باحتقار العوام، ثمّ انتهاكهم، ثمّ إهدار دمهم، وبالتوازي يبدأ الاستعلاء بالإيمان عند عضو الجماعة، ثمّ الشعور بالتفرّد، ثمّ إنكار الإيمان عن غيره من المسلمين. لا أعلم أنّ عالماً فقيهاً استوقفه هذا المصطلح الكارثي وفنّده أو أشار إلى بدعيته، فهذا المصطلح لم يستخدمه أحد من الصحابة ولا من علماء المسلمين من قبل، فالإيمان لا يدعو للاستعلاء على الآخر أبداً، بل يدعو للتواضع أمام الناس جميعاً، والانكسار لربّ الناس، والتوجيه الرباني في القرآن الكريم يقول للمؤمنين: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (الآية 94 سورة النساء)؛ أي لا استعلاء على أحد بالإيمان، فقد كنتم مثلهم حتى أنعم الله عليكم بالهداية ونور الحق.
هذا النهج سبّب الكثير من الانحرافات عند الجماعات الإسلاموية بدءاً بازدراء العوام وصولاً إلى إهدار دمائهم
إنّ التربية على الاستعلاء بالإيمان تحتاج مستعلياً ومستعلى عليه، وسبباً للاستعلاء، وقد اجتهد الإخوان في جعل أبنائهم المستعلين بالإيمان، ودبجوا الخطب والمقالات والرسائل التربوية ليوفروا سبباً لاستعلائهم على الناس، فتلبّسهم تفوق زائف وعصمة زائفة، دعاهم للتشبث أكثر بتنظيماتهم، فاعتبروا أنفسهم الفئة المؤمنة دون غيرهم، أو الفئة التي تفهم الدين الصحيح دون غيرهم، أو الفئة التي تعمل للدين دون غيرهم، ورفضوا أيّ نقد لجماعتهم أو لقاداتهم، وكلّ من انتقدهم اعتبروه معادياً للإسلام، أمّا المستعلى عليهم، فهم عوام الناس، فتعالوا وتكبّروا على كلّ مخالفيهم دون شعور بالذنب، لأنهم يظنون أنهم يحسنون عملاً، وأنّ مراد الله لهم أن يستعلوا بإيمانهم.
وفي تطبيق عملي للتربية على الاستعلاء، مستخدماً قصصاً من التراث بشكل ملتوٍ وفج، هناك كلمة تربوية (مصورة) ألقاها أحد التربويين المعتمدين عند الإخوان، وهو المهندس "م.ع" عضو مجلس شورى الإخوان، في مسجد من المساجد التي سيطروا عليها عقب ثورة 25 يناير العام 2011. وتعود أهمية الكلمة الشفهية إلى أنها تكشف مدى قدرتهم على تزييف الحكايات، وأنّ أثر الكلمة المسموعة أكبر من الكلمة المكتوبة، وأنّ التلقي الإخواني شفهي، وليس كتابياً، وكثير من التوجيهات التربوية تُعدّ كارثية وتصبّ في التكفير وتدعو للعنف بشكل واضح، وهذه المشافهة سرّية بين الإخوان فقط، فلم يكن يتسنّى التعرّف عليها وتحليلها، لكن بعد ثورة الاتصالات، وتملك الكثير من الإخوان هواتف ذكية يمكنها التصوير والتسجيل الصوتي، ومع حالة الأمان التي شعروا بها بعد 25 يناير، أخرجوا ما في قلوبهم تجاه الناس.
عادة الإخوان التي لن يتخلصوا منها أبداً أن يوظفوا التراث بما يناسب أهواءهم ولو قسراً
يقول المربي الإخواني في كلمته: إيّاك أن تكون من العوام (فالفرد الإخواني مختلف)، فالعوام عندما انتشرت شائعة أنّ جريج الراهب قد زنى بالبغي، قاموا بهدم صومعته، وعندما أظهر الله براءته سكت العوام عن إيقاع العقوبة ذاتها على الراعي الفاعل الحقيقي، ولم يوجّهوا اللوم للبغي التي ادّعت على جريج بالتهمة. وهكذا نرى كيف استنتج المربي الإخواني، عضو مجلس شورى الجماعة، أنّ هذا سلوك العوام بالمطلق، وأنهم لا يفكّرون بعقولهم، وكلّ الذي يملكونه ألسنة تنشر الشائعات.
نلاحظ هنا كيف تم توظيف هذه الرواية لغير غايتها، وهي تقديم العبرة المباشرة من أنّ الرجل الصالح ينجيه الله من الادّعاءات الكاذبة، فالرواية في صحيح مسلم وفي صحيح البخاري وفي الأدب المفرد، تدور حول جريج الراهب من بني إسرائيل، المتعبد الزاهد الذي نادته أمه فلم يجبها ولم يبرّها حرصاً على صلاته، فدعت عليه ألّا يموت حتى يرى وجه المومسات، فابتلاه الله بادعاء تلك البغي من بني إسرائيل، بأنها حملت منه، فأمر الملك وقتها بهدم صومعته، وجرّوه بحبل مربوط في عنقه، حتى أتى الملك والبغي وابنها، فصلى ثمّ اتجه إلى الرضيع وقال له: من أبوك؟ فقال: أبي الراعي، فندم الملك، وقال له: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، قال: من فضة، قال: لا، بل ردّوها كما كانت من طين. لم يكن هدف الرواية تتبع ماذا فعل الملك مع الراعي، ولا مع البغي، بل تهدف الرواية إلى إثبات أنّ تلبية نداء الأم أهمّ عند الله من الصلاة، وأنّ التقوى تنفع الرجل الصالح فتنجيه من الاتهامات الكاذبة.
لكنها عادة الإخوان التي لن يتخلصوا منها أبداً، أن يوظفوا التراث بما يناسب أهواءهم، يستخرجون من الحكايات ما يناسب واقعهم ولو قسراً، حتى لو اضطروا أن يطمسوا الحقائق، ويكذبوا في سرد الوقائع؛ فقط يجب الوصول إلى غايتهم، وغايتهم دائماً التأكيد على أفضلية الفرد الإخواني على غيره، لا لشيء إلّا بانتمائه للجماعة، وأنه أكبر من مجرّد أن يكون مسلماً عادياً، أو مسلماً من عوام الناس.