الجميع من دون استثناء، تأثر قليلًا أو كثيرًا من صدمة كورونا. لم يترك كورنا أحدًا؛ الأفراد والدول، والمجتمعات والإقتصاديات، أميركا والصين، روسيا، ودول الإتحاد الأوروبي، وكذلك منطقة الشرق الأوسط، ومنه دول الخليج العربي التي تأثرت كغيرها بسبب كورونا، ومن جراء صدمة ثانية بنفس العنف، هي صدمة انهيار أسعار النفط.
ورغم أن معركة كورونا لم تنتهِ بعد، وقد تكون في الدقائق الأولى من الساعة ومن الاستحالة التكهن بمساراتها النهائية، إلا أن هناك من استبق النهايات ليروّج لمقولة، أن حياة ما بعد كورونا ستختلف عن الحياة قبله، وأن عالم ما قبل كورونا ليس كعالم ما بعده، وان خليج ما بعد كورونا ليس كخليج ما قبل انتشار هذا الوباء الفتاك.
قد تكون هذه التكهنات سابقة لأوانها، لكنها تثير السؤال، هل كورونا منعطف تأسيسي مفصلي في التاريخ العالمي، يلغي ما قبله ويؤسس لما بعده؟ وهل هو هكذا بالنسبة لدول الخليج العربي وللحظتها في التاريخ العربي المعاصر؟ كيف سيؤثر كورونا على أولويات هذه الدول الداخلية والخارجية؟ هل سيكشف عن قوة، أم عن ضعف هذه الدول؟ وهل لحظة الخليج ما بعد كورونا ستختلف عما قبله؟ وهل سيكون الجزء الخليجي أقل أم أكثر إزدهارًا واخضرارًا؟ وبتحديد أكثر، هل ستخرج كل من الإمارات والسعودية، أهم ركيزتين في لحظة الخليج، بوضع إقليمي ودولي أفضل أم أسوأ؟
تشير مقولة لحظة الخليج في التاريخ العربي، إلى أن مركز الثقل، انتقل الى ست دول خليجية، حيث أصبح نفوذها في الكل العربي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. كما تدّعي مقولة لحظة الخليج، أن العواصم الخليجية، كالرياض وأبوظبي، أصبحت تملك القرار السياسي العربي، وليس الحواضر العربية العريقة، كالقاهرة، ودمشق، وبغداد، التي تعيش حالة الإنكفاء إلى الداخل، وتراجع دورها في الخارج، وسلمت الراية والقيادة طوعًا للخليج الصاعد.
كان الجزء الخليجي في صعود مستمر خلال الـ 20 سنة الماضية ـ إلى أن جاءت صدمة كورونا، التي قد تشكل لحظة انتقالية، وربما ولادة جديدة للحظة الخليج على أكثر من مستوى؛ فبسبب كورنا، من المتوقع أن تكون لحظة الخليج أكثر عولمة، وبسبب كورونا، من المتوقع أن تقترب دول الخليج من محيطها الآسيوي، وتعزز من تداخلها معه، وهو التداخل الذي تعزز في السنوات الأخيرة، لتصبح لحظة الخليج أكثر ”أسيوة“.
كانت لحظة الخليج لحظة عربية مع بعض الإشعاعات الدولية قبل كورونا، أما بعد كورونا، فقد عززت دول الخليج حضورها العالمي، خاصة السعودية والإمارات. فالسعودية مثلًا، سارعت إلى تفعيل مجموعة العشرين، وترأست سلسلة من الاجتماعات الوزارية والفنية خلال الشهرين الماضيين، لتنسيق الجهود الدولية لمواجهة خطر كورونا. وتحولت السعودية الى عاصمة للقرار الدبلوماسي العالمي، وليس العربي فحسب. أما الإمارات فقد برزت كعاصمة للعطاء العالمي، وقدمت اكثر من أي دولة أخرى، مساعدات طبية عاجلة، شملت نحو 50 دولة، ممتدة من اندونيسيا شرقًا الى كولمبيا غربًا، ومرورًا بعديد الدول.
خرجت السعودية والإمارات، بمكاسب رفعت من مستوى تأثير لحظة الخليج التي تنتقل من الفضاء العربي الى الفضاء العالمي، لممارسة أدوار جديدة، بما فيها المشاركة في وضع ترتيبات جيوسياسية لعالم ما بعد كورونا. لكن رحلة لحظة الخليج الى العالمية تنطوي على فرص ومخاطر عديدة؛ ذلك أن احد أبرز مستجدات صدمة كورونا على الصعيد العالمي، هو الضغط الأميركي الأوروبي المزدوج، لتحميل الصين تبعات الخسائر الاقتصادية الضخمة لانتشار كورونا، وربما فرض عقوبات عليها، بما في ذلك المقاطعة المالية والاقتصادية. وهو ما قد يشير الى بداية استقطاب دولي حاد، سيكون فيه على الجميع الانحياز لطرف ما، ومن المحتمل جدًا، أن تتعرض دول الخليج العربي لضغوط أميركية، للمشاركة في هذه المقاطعة وتوظيف قدراتها النفطية والإستثمارية والشرائية في حملة معاقبة ثاني اكبر اقتصاد في العالم؟ سيكون على صانع القرار الخليجي، اتخاذ قرارات محفوفة بالعواقب في عالم ما بعد كورونا، وقد يكون من المناسب أيضًا، وضع تصور خليجي لعالم ما بعد كورونا، يكون أساسه استقطاع 1% فقط، من الانفاق العسكري العالمي، البالغ 2 تريليون دولار، وتوجيهه لتطوير شبكة إنذار عالمي مبكر، تحدّ من انتشار الأوبئة، للخروج بأقل قدر من الضرر مستقبلًا، وذلك على نسق شبكة الإنذار المبكر قبل وقوع الزلازل.
من تداعيات فيروس كورونا، أنه سرّع من بروز عالم ما بعد أميركا، حيث لا تستطيع واشنطن وحدها إدارة العالم، ولا تستطيع بقية عواصم العالم، إدارة الشأن العالمي من دون أميركا، التي بدت مرتبكة ومنهكة في معركتها مع كورونا. كورنا كشف عيوب أميركا ونقاط ضعفها الكثيرة، لكنها ستظل قوة عظمى وأكبر اقتصادًا، وأقوى قوة عسكرية على وجه الأرض. كورونا أيضًا، ضاعف حدة الحرب التجارية بين الصين وأميركا، وقد يتمكن المحور السعودي-الإماراتي، إذا تصرف بحكمة، الاستفادة من هذا الاصطفاف التجاري على المدى البعيد، ليس عبر موقف الحياد الإيجابي، بل القيام بدور الشريك القادر على ترجيح هذه الكفة أو تلك. مصلحة لحظة الخليج فوق كل اعتبار، والمهم هو تأمين مستقبل خليجي آمن لمرحلة ما بعد النفط، وفي عالم ما بعد كورونا. على صانع القرار في الخليج البحث في تنويع الشراكات الإستراتيجية، وربما إعادة ترتيب تحالفه التاريخي مع الشريك الأميركي.
كورونا سرّع من الصعود الصيني الآسيوي معًا، وفي عالم ما بعد كورونا، ستقوّي دول الخليج علاقاتها بالشرق على حساب الغرب. ”أسيوة“ وليس أمركة الخليج ستكون علامة فارقة لخليج القرن 21. فثلاثة أرباع نفط وغاز الخليج يسافر يوميًا للشرق الآسيوي، والنسبة في تزايد، واينما يذهب النفط تذهب المصلحة الخليجية الوطنية. فالإمارات مثلًا لن تنسى أن كوريا الجنوبية هي الدولة التي قدمت لها ثلث إنتاجها من المعدات الطبية لمواجهة كورونا.
مهما كان الأمر بالنسبة لعولمة أو أسيوة لحظة الخليج، فإن هذه اللحظة التي كانت مزدهرة وخضراء اقتصاديًا أصبحت بسبب كورونا أقل اخضرارًا وازدهارًا. لقد جعل كورونا العالم أكثر فقرًا وبؤسًا، وحتى دول الخليج الغنية ليست بنفس ما كانت عليه من الغنى قبل كورونا، بسبب ركود الاقتصاد العالمي. وتراجع الطلب على النفط بنسبة 30%. ميزانيات دول الخليج في أسوأ حالاتها، وقررت تقليص نفقاتها والاقتراض من الخارج. صدمة كورونا على اقتصاديات الخليج عنيفة، لكنها ليست مميتة. فما حدث أن لحظة الخليج التي كانت خضراء اقتصاديًا هي الآن أقل اخضرارًا. فدول الخليج تعاني من ركود هو الأسوأ، وعليها أن ترتب أوضاعها وتجمد مشاريعها التنموية الطموحة حتى حين. أما الخلاف الخليجي فلم يتم احتواؤه، والحرب في اليمن مستمرة والتعاون الخليجي ليس في أحسن حالاته، والتوتر في الخليج في صعود وهبوط.
أن تكون لحظة الخليج أقل إخضرارًا ماليًا، فهي حالة موقتة مرت بها دول الخليج في فترات سابقة، وخرجت أقوى. لكن عولمة وأسيوة لحظة الخليج، هما المنعطف الجديد، وأهم مستجد ”بنيوي“، وقد تكونان من علاماتها الفارقة في عالم ما بعد كورنا.
إيلاف