عبدالخالق عبدالله يكتب:
حتميّة التطبيع والتصالح مع إسرائيل إماراتياً وخليجياً وعربياً
على الصعيد الشخصي أشعر بالحزن بأن الإمارات قررت التطبيع مع إسرائيل، وهو حزن عميق ولا يمكن وصفه. وموقفي الشخصي ضد التطبيع مع العدو الإسرائيلي واضح وكررته في كل مناسبة. فالحق حق، والباطل باطل، ولا مجال للمساومة في حق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، بخاصة أنني من جيل تربى على فكرة أن إسرائيل من أكبر خطر على الأمة العربية. هذا الموقف الشخصي ثابتة من الثوابت لا يتغير مهما قررت الدول واستجدت المستجدات.
لكن بعيداً من الموقف الشخصي المعارض للتطبيع، هناك قرار الإمارات الضخم والمفاجئ والمدهش للتطبيع مع إسرائيل الذي أقام الدنيا الأسبوع الماضي ولم يقعدها حتى الآن. هذا القرار أثار الكثير من الجدل المحق وغير المحق الذي تراوح بين غضب ورفض وشجب وإدانة بعضهم له، وارتياح وتفهم وتأييد وحياد بعضهم الآخر الذي على اعتباره خطوة شجاعة نحو إحلال السلام في منطقة هي في أمس الحاجة للسلام وقد يساهم في تخفيف التوتر في واحدة من أكثر المناطق توتراً في العالم.
الإمارات هي الآن الدولة الأولى خليجياً، والدولة الثالثة عربياً، والدولة التاسعة إسلامياً، والدولة الرقم 158 من أصل 192 من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، التي تعترف بإسرائيل وتقيم معها علاقات ديبلوماسية، والسؤال الجوهري لماذا قررت الإمارات التصالح مع إسرائيل، بل الأهم من ذلك كيف وصل 82 في المئة من إجمالي دول العالم من بينها دول عربية وإسلامية في مقدمها تركيا، إلى حتمية الاعتراف بدولة إسرائيل التي لم يكن من اللازم أن تقوم اصلاً قبل نحو سبعين سنة؟
ما هي اعتبارات الإمارات واعتبارات جميع هذه الدول للتطبيع مع إسرائيل، على رغم ما تمثله من استيطان واحتلال لا يمكن التصالح معهما إنسانياً؟ هل بلغ الجميع لحظة حتمية التطبيع والتصالح مع ما لا يمكن التصالح والتطبيع معه أخلاقياً؟ لقد تحرك قطار التطبيع عربياً من مصر، أكبر دولة عربية، عام 1979، ومر بعد ذلك بالأردن عام 1994، وها هو يصل إلى الإمارات التي تعيش لحظتها في التاريخ وأصبح قدرها أن تكون الآن قاطرة الأمة العربية، فإينما تذهب تجر معها بقية دول المنطقة؟
يأتي قرار الإمارات التطبيع مع إسرائيل ضمن سياق تاريخي وإقليمي وسياسي عمره أكثر من سبعة عقود من الصراع العربي الإسرائيلي. تراكمات هذه العقود الراسخة في الأرض العربية هي التي أفرزت لحظة تطبيع الإمارات مع إسرائيل، وهي ايضاً تخلق الظروف الموضوعية لجعل التصالح مع إسرائيل حتمية تاريخية وتفرض التطبيع فرضاً على الدول العربية جميعها وليس الإمارات فحسب. لقد أنهك الصراع العربي - الإسرائيلي العرب واستنزفهم أيما استنزاف وأدخلهم الى متاهات مظلمة، ونقلهم من هزيمة موجعة إلى هزيمة أخرى أكثر وجعاً. خلال 70 سنةً لم تحقق الأمة العربية انتصاراً مقنعاً واحداً يعتد به في صراعهم مع عدو إسرائيلي استيطاني وعنصري شرس. استمرار هذا الصراع يعني الذهاب من قاع إلى قاع آخر أكثر وحشة ويعني أيضاً ضياع كل ما تبقى من فلسطين.
مع بداية القرن الواحد والعشرين، وربما قبل ذلك، أصبح من الواضح أن تحرير فلسطين من عاشر المستحيلات. حلم هزيمة المشروع الصهيوني الغاشم انتهى فعلياً، وتراجع معه حلم تحرير كل فلسطين ربما كلياً ونهائياً. بل انتهى حلم تحرير جزء من فلسطين، وأخيراً انتهى حلم قيام دولة فلسطين. أصحاب القضية تعبوا من قضيتهم وأضاعوا فلسطينهم. والمسؤولية ليست فلسطينية بحتة، فالكل، من دون استثناء شارك ويشارك في ذبح حلم تحرير فلسطين ووأد قيام الدولة الفلسطينية. لم يخلق بعد من هو بريء من مسؤولية ضياع فلسطين مهما كابر وزاود بخطاباته العنترية. بل أصحاب الخطابات العنترية والحنجورية هم أول من يتحمل مسؤولية ضياع فلسطين، وهم أكثر من ساهم في ترسيخ دولة إسرائيل وجعلها أقوى دولة في المنطقة.
أربعة أجيال عربية متعاقبة تتحمل مسؤولية هذه المأساة التاريخية الكبرى التي تؤلم كل عربي شريف وكل انسان صاحب ضمير. خلال كل سنوات الصراع العربي الإسرائيلي، كانت إسرائيل تزداد قوة وغطرسة وتفوقًاً وتطوراً وتمدداً وتحولت الى حصن حصين مدجج بكل معطيات القوة التي تستمد حيويتها من نظام ديموقراطي أصبح موضع تقدير عالمي. الوحش الإسرائيلي ابتلع ثلث فلسطين، ثم ابتلع نصف فلسطين، وأخيراً ابتلع ثلاثة أرباع أرض فلسطين وأعلن القدس عاصمته الأبدية وكان على وشك ضم الضفة الغربية بكل ما فيها من بشر وشجر وحجر.
ومع بداية القرن الواحد والعشرين أصبحت إسرائيل قوية بالمطلق والعرب ضعفهم مطلق. هذه المعادلة فرضت حتمية التطبيع ورسخت مبدأ اليمين الإسرائيلي السلام مقابل السلام وأبعد المشروع العربي السلام مقابل الأرض.
يأتي قرار الإمارات ضمن هذا السياق التاريخي الذي جعل التصالح والتطبيع حتمية تاريخية كالساعة لا ريب فيها ولا راد لها. بعد سبعين سنة من الصراع العربي - الإسرائيلي من غير الوارد هزيمة إسرائيل ومن غير الوارد تحرير فلسطين مهما إدعى المدعون غير ذلك. لا يوجد عاقل يصدق أن فيلق القدس الإيراني سيحرر القدس وأن أردوغان همه تحرير فلسطين؟ ولا يوجد عربي صادق مع نفسه ويصدق أن أنظمته العربية التي تقمع وتحتقر شعوبها قادرة على هزيمة المشروع الصهيوني الاستيطاني المدعوم أميركياً؟ ولم يخلق حتى الآن ذلك الفلسطيني الحر الذي يؤمن أن السلطة الفلسطينية المترهلة والفاسدة قادرة على تحقيق سلام مشرف مع العدو الإسرئيلي، وأن حركة "حماس" التي حولت قطاع غزة إلى خرابة مؤهلة لبناء دولة فلسطينية مستقلة ومستقرة ومزدهرة.
البديل التاريخي الوحيد أمام الجميع هو التصالح والتطبيع والاعترف وبروز قائد يملك الجرأة والشجاعة ويحدث الطوفان علّه ينقذ ما يمكن إنقاذه من فتات فلسطين في الدقائق الأخيرة. هذا ما فعلته الإمارات هذا الأسبوع التي أخذت على عاتقها تحريك سكون مسار السلام الفلسطيني - الإسرائيلي. قد تعجب بعضهم شجاعة وجرأة الإمارات وقد تنطلق أصوات نكرة تحاسبها على تجاوبها مع لحظة حتمية التطبيع بكل حسناتها ومساوئها.
لذلك من المفارقة والسخرية أن يأتي من خان ويخون ويكابر ويتاجر بأعدل قضية في التاريخ ليتهم الإمارات بالخيانة. من يود ان يلوم الإمارات من المزاودين من جماعات إيران وأردوغان والإسلام السياسي، عليه ان يلوم نفسه إن كان صادقاً. هناك خطيئة ارتكبت بحق فلسطين والجميع ساهم في ذلك وأقل هذا الجميع الإمارات.
لقد اتخذت الإمارات خطوة زلزالية أدهشت الجميع، وهي سيدة نفسها وصاحبة قرارها ولا تبالي للوم لائم محق أو لئيم. قرار الإمارات لا راد له ولا تراجع عنه، ولن يتأثر بردود أفعال غاضبة قادمة ممَن ينتمي الى القرن العشرين، فحين أنها تعيش حقائق القرن الحادي والعشرين.
كمواطن وأكاديمي من الإمارات لم ولن أكون مع التطبيع على الصعيد الشخصي، لكن أفهم وأتفهم قرار الإمارات بعد أن أصبح التطبيع والتصالح حتمية لها ولبقية دول المنطقة. لم تكن الإمارات الدولة العربية الأولى ولن تكون الأخيرة التي تقرر أن تعيش هذه الحتمية بكل ما لها وما عليها. المؤكد الوحيد أن قرار التطبيع لن يمس ثوابت الإمارات تجاه قضايا وهموم الأمة وفي المقدمة دعم القضية الفلسطينية ووقف ابتلاع إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين. وقوف الإمارات بجانب الشعب الفلسطيني ثابت لا يتغير بل أتوقع أنه سيكون أقوى وأعمق اليوم من أي وقت.
------------------------------------
المصدر| النهار العربي