كرم نعمة يكتب:

لم نقترب بعد من عصر التلفزيون الذهبي

كنت أضيف جملة “ربما لسوء حظي أيضا” إلى جملة سابقة “من حسن حظي” أنني لم أشاهد القنوات الفضائية العربية منذ ثلاثين عاما، ليس ترفّعا أو تعاليا، بل لأنني لا أملك في جهازي هذه القنوات ولا أشجع نفسي على إضافتها كل تلك السنين، وعندما قدر لي إضافتها تحت وطأة حاجة أسرية في المنزل، لم يأخذني الشغف بها، بل كنت أتعمد زيادة “جهلي المفترض” بمحتواها من أجل الإبقاء على متعة خياراتي في مشاهدة ما يرقى بالذائقة والوعي في بدائل تلفزيونية متاحة لي بقنوات وشبكات عالمية. فغالبا ما يتم رسم تشابه بين “هوليوود الجديدة” في السبعينات، الذروة الفنية التي صنع فيها صناع الأفلام أعمالهم الأكثر شهرة وصعوبة، و”العصر الذهبي” للتلفزيون في السنين الأخيرة.

وعلى مدار شهر كامل انقضى هذا الأسبوع، كنت متابعا مخلصا إلى حد ما لتلك القنوات العربية، ويا للخيبة!! إلى درجة أنني سأحذف جملة “ربما لسوء حظي أيضا” عندما أجيب على من يسألني من الزملاء والفنانين والإعلاميين عن مشاهدة نتاجهم. القطيعة مفيدة عندما تتاح لك الخيارات الأفضل، وهذا ما حدث معي على مدار أكثر من عقدين من الزمان في انتقائية مشاهدة التلفزيون.

لأنني مشبع بالمادة الإخبارية على طوال يوم عمل صحافي مستمر، فلدي فكرة عما يجري في العالم عبر شريط إخباري مستمر بما تبثه وكالات الأنباء العالمية، لذلك تبدو لي المشاهدة المسائية للبرامج ونشرات الأخبار فرصة للعين الناقدة ووضع المادة التلفزيونية تحت المجهر الصحافي، مثلما تتحول المادة الدرامية والسينمائية إلى درس مفيد في المتعة أو المعرفة أو الخيبة والانزعاج، فبرامج التلفزيون قد تكون أكبر مصدر للإزعاج المعرفي.

وفي حقيقة الأمر، إن التلفزيون لم يتأثر بما تأثرت به المادة الصحافية بشكل عام في العصر الرقمي، بل كان فرصة مستمرة في الارتقاء بالمحتوى وصنع مادة تلفزيونية متميزة تلبي الأمزجة المختلفة، ولهذا يمكن تفسير تنافس الاشتراك في شبكات البث التلفزيوني حسب الطلب، نتفليكس وأمازون وأبل..

لكن ماذا استفدنا في شبكاتنا التلفزيونية العربية من كل ذلك؟ إذا استثنيا عن قصد فكرة استيراد نموذج كان قد أثبت نجاحه بشكل كبير في المحطات العالمية، فإن البرامج المستنسخة سواء المتعلقة بالطهي أو المسابقات الفنية أو المعرفية، لا تكون أكثر من كونها مادة مستوردة نضع لغتنا عليها، من دون صناعة فكرتها، بينما الأفكار الأخرى في البرامج العربية تكاد تكون تكرارا مملا وخاليا من أي محتوى جديد يحرض على التفاعل المعرفي. فصارت لدينا شاشات بدقة عالية وأجهزة تلفزيون بجودة أعلى، لكن بمحتوى عاجز عن اللحاق بالعصر الذهبي للتلفزيون.

لسوء الحظ أن الدراما العربية لم تستطع الاستفادة من فكرة وجرأة المحتوى المتميز، واكتشفت أنها لا تملك غير أن تدور على نفسها وتاريخها تحت وطأة حاجة تجارية وتسويقية مترهلة تمثلها الدراما المصرية.

فالضجيج الواهم الذي رافق مسلسلي “البرنس” و”فلانتينو” اللذين بُثا عبر محطة “أم.بي.سي” يعبران بامتياز عن فكرة فشل الوصول إلى المحتوى المتميز. العملان استهانة مريعة بوعي المشاهد، وتعويل على تشويق تجاري لم يعد له مساحة في زمن تلفزيوني متطور. فـ”البرنس” أسوأ من أسوأ عمل هندي منتج في ستينات القرن الماضي، بينما “فلانتينو” جسد بامتياز صورة الممثل “النجم” عندما يترهل فيكون فائضا عن الحاجة أكثر مما هو مشوّه للذائقة البصرية.

لا أحد يستطيع إخبارنا عن “المال الثقافي” المستحصل من هذين العملين الدراميين، وبأي معرفة يمكن أن تستثمر القنوات التي دفعت أموالا طائلة للترويج لمحض فراغ ذهني!

وحتى الدراما الخليجية وهي تحاول أن تتقدم بثقة، لم تستطع التخلص من فكرة الدوران حول نفسها من دون أن تضيف ما يجعل تاريخها الغض يزاد صلادة في ذاكرة المشاهد.

فعندما التقطت فكرة مثيرة وجديرة بالمعالجة عن تاريخ اليهود في المجتمعات العربية في مسلسل “أم هارون” صنعت مادة عائمة في فضاء تائه بمحتوى هزيل، ولم تستطع حتى الاستفادة من براعة أداء الممثلين أنفسهم، ووصل الانهيار المعرفي بمخرج المسلسل إلى الاعتراف من دون مواربة أو خجل بجهله بلهجة المسلسل الذي يخرجه، وكأنه يتعامل مع ممثلين من كوكب فضائي وليسو عربا، مدفوعا بالفكرة التي كانت سائدة وانهارت منذ عقود عن ثقافة المركز والأطراف في العالم العربي.

تعويلنا على الدراما اللبنانية والسورية أيضا كان خيبة، فمثال مسلسل “سوق الحرير” لا يقول أكثر مما قالته الدراما السورية سابقا وبكاميرا تكاد تكون مصابة بالجمود. أما مسلسل “الطريق” فلم يضف أكثر مما قدمته الدراما اللبنانية في تاريخها المعاصر بغض النظر عن الأداء المميز للفنان عابد الفهد بطل المسلسل. بينما يحرض المشهد اللبناني الاجتماعي والسياسي على أفكار مثيرة، لكن المنتجين فضلوا الاجترار من قصص قديمة لإعادة تجسيدها بطريقة لا جديد فيها.

واقع الحال أننا لم نكن أمام فرضية هذا المسلسل جيد أو سيء في الغالبية العظمى من الدراما العربية المعروضة على مدار شهر رمضان، لأن الخيار كان واحدا ولا أكثر من ذلك.

وعجزت التلفزيونات العربية أيضا عن صناعة فكرة جديدة في البرامج وهي تسقط في فخ التكرار سواء ببرامج المسابقات أو الحوارات والترفيه وزاد من ذلك -لسوء الحظ- القيود التي فرضها الحجر الصحي على البلدان العربية، فيما بدت البرامج السياسية مكشوفة في الترويج لخطاب سياسي آحادي مدفوع الثمن، كما أنها -لسوء حظ الصحافة أيضا- لم تستطع إقناع المشاهد وهي تدافع عن خطابها.

كانت دراسة حديثة لجمعية القلب الأميركية قد ذكرت أن ساعات مشاهدة التلفزيون بعد العشاء تعد سلوكا أكثر سوءا من العمل في المكتب. إلا أن مشاهدة التلفزيونات العربية صارت تتبوأ أعلى المراتب في التسبب بالضرر المعرفي والذوقي.

ومن حسن حظ ألان سيبينول مؤلف كتاب “تمت تلفزة الثورة” أنه لم يشاهد قنواتنا، وإلا لتراجع عن تبرير اندفاعه وراء الثورة التلفزيونية!