الحبيب الأسود يكتب:
واشنطن تدعم أردوغان في ليبيا ضد حلفائها في المنطقة
سيكون على الدول العربية، خاصة تلك التي تعتبر الولايات المتحدة حليفها الرئيسي، أن تقرأ بجدية طبيعة الموقف الأميركي المستجد في ما يتعلق بالملف الليبي وما قد ينتج عنه من مخاطر على الأمن القومي العربي، نتيجة إطلاق يد أردوغان ومنحه فرصة التدخل السافر الذي يصل إلى مرتبة الغزو، دون أي اعتبار للقانون الدولي والقرارات الأممية ومصالح منظومة دول الاعتدال العربي التي يفترض أنها الأقرب إلى واشنطن.
يبدو أن الرئيس الأميركي ترامب، الذي يعيش وضعا صعبا على كل المستويات قبيل رئاسيات نوفمبر القادم، ترك الحبل على الغارب لمن يسطرون له سياساته وفق حسابات سبق وأن ورطت بلاده في ما سمي بثورات الربيع العربي ودعم قوى الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية ما أدى إلى تغول الميليشيات في العراق وسوريا وليبيا واليمن وظهور داعش.
نفس الحسابات استغلها أردوغان مكشرا عن أنيابه، عندما حوّل بلاده إلى معبر للإرهاب التطبيقي، ومقرا للإرهاب النظري، وكشف عن طموحاته التوسعية امتدادا لمشروع الخلافة الذي يطمح إلى إحيائه.
تهديد أردوغان للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، مبني على استغلال عضوية بلاده في حلف الناتو، وترهل الموقف الأميركي، والانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، والنظام الإقليمي والعالمي، مقابل اتساع نفوذ الإسلام السياسي.
قوى عديدة داخل واشنطن ترى في أردوغان حليفا سياسيا استراتيجيا، ومنفذا لبرامجها الاقتصادية، وقادرا على لجم الإرهاب المنفلت، وضمان أمن إسرائيل، وكذلك سلاحا لضرب القوى المنافسة لها، خاصة الصين وروسيا، الدولتان اللتان تعرفان جيدا معنى الإرهاب الإسلاموي، وسبق أن جربته في مناسبات عديدة.
موقف واشنطن من ليبيا شهد منذ أكثر من عام، الكثير من التناقضات من الداخل، ففي 17 أبريل 2019 اتصل ترامب بالمشير خليفة حفتر، معربا عن احترامه الكبير للدور الذي تقوم به القوات المسلحة في الحرب على الإرهاب، واعتبر الاتصال ضوءا أخضر لإتمام المهمة، خاصة أنه جاء بعد أسبوعين من إطلاق عملية تحرير طرابلس.
وانطلقت سلطات طرابلس واللوبي الإخواني واللوبي التركي ومراكز النفوذ الممولة من قطر، خاصة تلك المرتبطة باللوبي الصهيوني، بحملات واسعة في الولايات المتحدة، تم من خلالها عقد صفقات بعشرات ملايين الدولارات، للضغط على البيت الأبيض، وإبداء الدعم لحكومة السراج ولو بشكل محتشم.
واندفع إخوان ليبيا أكثر، عندما أعلنوا استعدادهم لمنح واشنطن قاعدة عسكرية في غرب البلاد، وتمكينها من النصيب الأكبر من الاستثمارات في مجالات النفط والغاز، وحاولوا أن يدثّروا تلك الوعود بمزاعم عن تحول الأراضي الليبية إلى ساحة للنفوذ الروسي في شمال أفريقيا.
استعمل الإخوان وحلفاؤهم روسيا فزاعة لضمان موقف أميركي مساند لتدخل تركي مباشر في ليبيا، ومنذ أن بدأ أردوغان في نقل الآلاف من المرتزقة إلى طرابلس ومصراتة لم يصدر أي موقف أميركي مباشر للتنديد بذلك، ما عدا بعض البيانات التي تتحدث عن تدخل خارجي دون تحديد مصدره.
ورفضت الولايات المتحدة تعيين الجزائري، رمطان لعمامرة، مبعوثا للأمين العام المتحدة لليبيا بسبب موقف الإخوان المعادي له، وتم في مناسبات عدة تأجيل اجتماعات مجلس الأمن، وباتت واشنطن تبحث عن أي دليل ولو كان وهميا قد يساعدها على تبرير موقفها الداعم ضمنيا للغزو التركي لليبيا.
الموقف الأميركي يبدو مضطربا، لكنه لا يخرج عن انتهازيته المعهودة، واشنطن تريد الوصول إلى أهدافها عن طريق التدخل التركي، وفي حالة نجاح أردوغان فإن خطتها هي القبول بتقاسم النفوذ مع موسكو.
ويعني ذلك تقسيم ليبيا، خصوصا وأن الولايات المتحدة ارتكبت خطأ استراتيجيا، هو تضخيم وهم التدخل الروسي، بما يعني أن إرسال موسكو طائرات مقاتلة وأسلحة وقوات عسكرية لن يغيّر كثيرا من الموقف، باعتبار واشنطن قد تحدثت عن رصده عيانا ولم تتصدّ له، بدعمها غير المباشر لتابعها التركي.
أما في حال فشل أردوغان، فإن واشنطن تعرف متى تتراجع خطوة للوراء، تاركة مجالا لخدمة مصالحها، كما حدث في سوريا، عندما انكفأت على نفسها في بعض المواقع، تاركة المجال للروس والأتراك.
لا يضير الولايات المتحدة شيء إن هي أعلنت دعمها لطرف محدد، ثم تخلت عنه لحظة انكساره، أو ظهور بوادر هزيمته؛ لا أحد يعتقد أن ميليشيات السراج أو مرتزقة تركيا أقرب إلى واشنطن من الأكراد، الذين باعتهم ليقتلوا على أيدي قوات أردوغان.
يبقى السؤال: ماذا عن موقف واشنطن من حلفائها العرب، الذين خذلتهم مرة أخرى، بوضع يد في يد النظام التركي الذي يستهدف منطقتهم، ويسعى إلى السيطرة على ليبيا وتحويلها إلى إمبراطورية للإرهاب، لتكون خنجرا في صدورهم وظهورهم؟
لم يعد ممكنا التعامل مع واشنطن كحليف موثوق به، وهذا ما تأكد منذ عام 2011، ولم يعد من الصواب اعتبارها السند الاستراتيجي لقضاياهم ومصالحهم، وإنما يجب النظر إليها كدولة خاضعة لمصالح القائمين عليها؛ أشخاص ومراكز ضغط ونفوذ لها حساباتها، ومؤسسات كبرى باتت عرضة للاختراق.