الحبيب الأسود يكتب:
إعادة اكتشاف أميركا من جديد
الانتفاضة الشعبية العارمة والمنفلتة التي تعيشها الولايات المتحدة هذه الأيام، تضعنا أمام جملة من الحقائق، أولها نهاية الحلم الأميركي الذي طالما تم تسويقها له، واكتشاف العالم أن العضلات القوية، من النواحي الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، يمكن أن تخفي أوراما بصدد نخر الجسد من الداخل، فالقوة الحقيقية للدول هي تلك التي تتجسد في الوئام الاجتماعي، وفي شعور المواطن بقيمة العدالة الحقيقية، في ظل نظام سياسي متصالح مع نفسه ومع مجتمعه، وقادر على توفير الرفاهية والسعادة لأبنائها والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات.
كانت البداية مع مشهد رجل الأمن الأبيض وهو يلقي بثقله على رجل أسود حتى لفظ أنفاسه الأخيرة اختناقا، ذلك المشهد التقطته وروّجته التكنولوجيا الأميركية، وهو من صنع العنصرية التي لم يستطع المجتمع تجاوزها، وبقيت تذكره دائما بأن على قادته أن يلتفتوا إلى حقوق الإنسان في بلادهم، قبل أن يتدخلوا في شؤون الدول الأخرى، ويجعلوا من أنفسهم أوصياء على شعوب العالم.
يجب أن تكف منظماتهم “الحقوقية” ووسائل إعلامهم عن دق الأسافين للأنظمة الصديقة قبل العدوة، فما حدث في الدول العربية مثلا في العام 2011 لم يصل إلى مستوى الاحتجاجات التي تعرفها الولايات المتحدة حاليا، ولكن التدخل الأميركي زاد من تأجيجها وحولها إلى مشروع تغيير شامل لفائدة قوى الإسلام السياسي، خاصة تلك التي لا تخفي عمالتها لواشنطن.
ووفق الأمم المتّحدة وشبكة حقوق الإنسان الأميركيّة فإن “التمييز في الولاياتِ المتّحدة يتخلّل جميع جوانب الحياة، ويمتدّ إلى جميع الأعراق غير البيضاء”؛ وجدت الدراسات الاستقصائيّة التي أجرتها منظمات على مدى العقود الماضية، أن هناك قطاعات كبيرة من الأميركيّين تعترف بتبنّي وجهات نظر تمييزيّة حتّى في أميركا الحديثة.
نجحت الولايات المتحدة في تقديم نفسها كقوة لا تقهر، وهذا صحيح من الناحية العسكرية والتكنولوجية على الأقل، ولكن على المدافعين عن النموذج الأميركي أن يراجعوا حساباتهم، خاصة في المسائل الاجتماعية والحقوقية
وذكر أحد التقارير أن واحدا من كلّ عشرة أميركيين أقر بأنه يحمل تحيزا ضدّ الأميركيين اللاتينيين، وأنّ واحدا من كل أربعة لديه تحيّز ضد العرب الأميركيين. ووجد استطلاع للرأي أجري عام 2018 أنّ 17 في المئة من الأميركيين يعارضون الزواج بين عرقين مختلفين، و19 في المئة يعارضون الزواج من المجموعات العرقية “الأخرى”، و18 في المئة يعارضون الزواج من السود، و17 في المئة يرفضون الزواج من البيض، و15 في المئة يرفضون الزواج من اللاتينيين.
الشعارات التي ترفعها الولايات المتحدة تحتاج إلى أن تتجسد على واقعها المحلي أولا، لأن ما يجري حاليا في شوارعها يثبت أنها تعاني من تحديات اجتماعية واقتصادية كبرى، كما أن أدواتها لاختراق الدول الأخرى باتت تمثل خطرا حقيقيا عليها من الداخل.
فوسائل التواصل الاجتماعي مثلا، التي سعى الأميركيون إلى أن يجعلوا منها أداتهم لفرض العولمة، وإلى التحكم في المعطيات العامة للدول والشخصية للأفراد، هي التي أصبحت اليوم تهدد كيان الولايات المتحدة، وقد تؤدي في المستقبل إلى تفكيكها بعد أن أضرت بوحدة شعبها المتعدد الأعراق.
علينا أن ننظر إلى الأحداث الحالية على أنها قد تتكرر في أكثر من مناسبة، وعلى أكثر من صعيد، نتيجة للتجييش الإلكتروني من قبل أفراد وجماعات، أو من قبل قوى سياسية راغبة في تغيير دراماتيكي لمؤسسات الحكم ومراكز النفوذ السياسي والاقتصادي، من خلال استغلالها التناقضات الاجتماعية، أي بذات السلاح الذي تستعمله واشنطن لتغيير الأنظمة والحكومات في دول أخرى.
وبينما يتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب وسائل التواصل الاجتماعي بنشر الأكاذيب وتزوير الحقائق، تضغط واشنطن وبقوة ضد أي بلد آخر، خاصة إن كان من العالم الثالث، في حال تجرؤه باتخاذ إجراءات وقائية ضد أعمال تخريبية، أو الأهداف التي لا تخلو من نوايا شريرة في حق المجتمعات الأخرى وخاصة المجتمعات العربية.
لنتصور لحظة أن مظاهر قمع المحتجين بالمدن الأميركية تحدث في بلد عربي كمصر، أو السعودية مثلا، كيف سيكون الموقف الأميركي حينها؟ دون شك، صاخبا وساخطا ومنددا ومستنكرا وداعيا بكل قوة إلى احترام من سيصفهم بالمدنيين العزل، حتى وإن كانوا مخربين ومتورطين في ممارسة العنف ضد مؤسسات الدولة.
ولننتظر التقارير المدوية لوزارة الخارجية، والبيانات المرسلة لهيومن رايتس ووتش، والقرارات الصادرة عن الكونغرس، وتعاليق الصحف والمجلات التي ستصب جميعا في وصم مجتمعاتنا بالدكتاتورية والاستبداد.
ما يجري في الولايات المتحدة ويتابعه العالم، هو رد فعل لطبقات مسحوقة وجدت في الاحتجاجات مناسبة للنهب والسلب والتخريب والثأر والتشفي من مؤسسات الدولة، كما يحدث عند حصول أي انفلات في أي بلد من بلداننا الفقيرة، والسبب أن أكبر اقتصاد في العالم مبني على سياسات رأسمالية مجحفة في حق الملايين من السكان المحليين.
أشارت إحصائيات العام 2019 إلى أن 38 مليون مواطن أميركي، يعيشون تحت خط الفقر، وترتفع هذه النسبة بين الأقليات، كما يعيش تحت مستوى خط الفقر ما لا يقل عن 12 مليون طفل، أي ما يقرب من سدس الأطفال الأميركيين، ويبلغ عدد المشردين ممن لا يجدون سكنا يأويهم 553 ألف شخص، ويفتقد أكثر من 30 مليون أميركي إلى التأمين الصحي.
يعتقد مراقبون أن الولايات المتحدة تمر حاليا بأقسى امتحان منذ الحرب العالمية الثانية، وأن حالة الاحتجاج التي تعيش على وقعها هذه الأيام هي إنذار حقيقي، ليس لرونالد ترامب كما يريد أعداؤه أن يقولوا، ولكن للنموذج الأميركي ككل، وهو نموذج يختزل نظرية الديمقراطية الليبرالية بشكلها الآيل للانهيار، نظرا لترهل أدواته التي لم تعد تقنع الجماهير العريضة، بسبب عجزها عن التعبير الحقيقي عن واقع المجتمع، وظهورها كلعبة سياسية تمارس من أجل حماية مصالح اللوبيات المالية والاقتصادية في الداخل والخارج.
نجحت الولايات المتحدة في تقديم نفسها كقوة لا تقهر، وهذا صحيح من الناحية العسكرية والتكنولوجية على الأقل، ولكن على المدافعين عن النموذج الأميركي أن يراجعوا حساباتهم، خاصة في المسائل الاجتماعية والحقوقية.
الدولة العظمى تواجه تآكلا من الداخل، خاصة من قبل الفئات المهمشة، التي بقدر مساهماتها الفعلية في البناء، قادرة على الهدم أيضا لتشكيل مفهومها المختلف للدولة التي تطمح إليها.
على المتنطعين في ساحات التنظير للديمقراطية الغربية أن يتواضعوا قليلا أمام الحقيقة الظاهرة للعيان، وهي أن الديمقراطية عندما تفقد بعدها الاجتماعي، تصبح مجرد أداة للتداول السلمي، وتمهد لأصحاب المصالح، من بوابات المال والأعمال والإعلام، الإمساك بمقاليد الحكم، دون وعي منهم لما يجري في قاع المجتمع.