عبد الحميد صيام يكتب:

جذور العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية ومشوار اقتلاعها الطويل

مخطئ من يظن أن العنصرية تنتزع من ثقافة مجتمعية عريقة بمجرد تغيير القوانين. فالعنصرية في المجتمع الأمريكي متأصلة وعميقة ويحتاج انتزاعها إلى عقود طويلة من الممارسة والتثقيف والاندماج وتجريم الفصل العرقي وتربية الأجيال الجديدة على مبادئ التسامح والمساواة واعتبار التنوع ميزة وفضيلة.

وكي نفهم العنصرية على أصولها نعود للتعريف الرسمي الذي اعتمدته الأمم المتحدة في الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري التي اعتمدت عام 1965 ودخلت حيز النفاذ عام 1969. فالتمييز العنصري هو أي “استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو الدين أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني”. وظاهرة العنصرية منتشرة عبر التاريخ ولا يوجد شعب خلا أو يخلو من نوع ما من التمييز. قد يكون ضد المهاجرين أو ضد الفقراء أو المرأة أو الأقلية اللغوية أو العرقية أو الدينية. وفي بلادنا العربية لا يخلو بلد من شكل أو أشكال من التمييز حتى لتجدن التمييز أحيانا بين القبائل وفي القبيلة الواحدة والتي قد تتساوى فيها الأصول والمنابت. وتعزز الثقافة المجتمعية هذه الفكرة المتأصلة كأن يقال: إبن أصول، بنت أصل وفصل، ومن أولاد الذوات وغير ذلك الكثير.

الأفارقة والعالم الجديد

ينسى الكثيرون أن المهاجرين الأوروبيين الذين وصلوا شواطئ العالم الجديد اكتشفوا أنه مأهول بالسكان الأصليين الذين أطلق عليهم اسم الهنود الحمر. وقد رأى اؤلئك المهاجرون الأوائل أن أفضل طريقة للتعامل مع السكان الأصليين هي إبادتهم. وهكذا كان وبفتوى دينية باعتبارهم ليسوا من عبّاد الرب الذي يعبده الأوروبيون.

يختلف المؤرخون على العدد الذي أبيد من السكان الأصليين، فقد ينخفض إلى 30 مليونا ويرتفع ليصل إلى 117 مليونا، لكن لا أحد يختلف على حقيقة الإبادة. وعند بداية حركة الإعمار واستصلاح الأراضي والتنقيب عن المعادن والعمل في المزارع والمناجم اكتشف المهاجرون البيض أنهم بحاجة إلى أيدي عاملة. فكان الحل باستجلاب العبيد من القارة السمراء. فبدأت أكبر حركة تجارة رق في التاريخ بتدشين أول حمولة سفينة يملكها التجار البرتغاليون عام 1526. استمرت التجارة لنحو أربعة قرون ونصف وجلب بين 12-15 مليون أفريقي لأمريكا ومنطقة الكاريبي استقر منهم على الأقل نحو خمسة ملايين في الولايات المتحدة. وقد قدر عدد الذين توفوا أثناء رحلة عبور المحيط نحو 2.5 مليون، حيث كان يرمى في البحر كل من كان ضعيفا أو مريضا أو فيه عيب خلقي.

إن جريمة إبادة السكان الأصليين وما لحق بها ونتج جزئيا عنها من جريمة الرق ستبقيان وصمة عار على مر الزمان لا تموتان بالتقادم. كان العبد وذريته يعتبرون ملكا شخصيا للمشتري. وكانوا يعيشون في ظروف قاهرة تبنى لهم عشش في المزارع ويعملون طوال الوقت. ويعتبر المولود من أم سوداء عبدا حتى لو كان والده مالك الأرض والمزرعة، فقد كان من حق صاحب العبيد أن يعاشر من يشاء من الإناث اللواتي يملكهن.

بمجرد أن يصبح العبد ملكا للسيد الأبيض، يمنع عليه التحدث بلغته الأصلية، ويحرم من ممارسة أي نوع من العبادات التي كان يمارسها في موطنه الأصلي. وكانوا يظلون في العمل وخدمة السيد الأبيض حتى الموت يورثون أو يباعون. لقد حرموا من التعليم كي تظل مهاراتهم محصورة فيما يحدده السيد الأبيض. وقد ترسخ عبر الممارسة عن الأغلبية البيضاء وتجار العبيد أن الأسود أقل ذكاء ومهارة وقدرة على التعلم، وأن الأسود يجب أن يكون في موقع لا يتساوى مع الأبيض، وأنه أصلا جيء به إلى هذه البلاد لخدمة سيده الأبيض والذي يملك الحق في تسخيره كيفما يشاء.

حاول الرئيس أبراهام لنكون أن يعيد النظر في حقوق السود وأدخلت بعد نهاية الحرب الأهلية (1866-1876) عدد من الإصلاحات لكنها لم تصل إلى حد إعطاء السود أي نوع من حقوق المساواة وخاصة في ولايات الجنوب الزراعية، بينما استطاعت ولايات الشمال الصناعية أن تستوعب أعدادا كبرى منهم فروا من الجنوب للعمل في المصانع والمناجم. لكن ظلت معاملة السود التمييزية مستقرة وظلت الهبات الجماهيرية تقوم وتنطفئ إلى أن قامت حركة احتجاجات “الحقوق المدنية” في أواخر الستينيات بعد أن قاد مارتن لوثر كنغ ومالكوم أكس، حركة الاحتجاجات الكبرى والتي في النهاية أجبرت الرئيس لندون جونسون على إقرار قانون المساواة وطبق فعلا في أول انتخابات عام 1968 حيث فتح حق الترشح والترشيح والانتخاب لعموم الأمريكيين.

التمييز في المعاملة والأجور

 التمييز جزء متأصل في ممارسات الناس العاديين. وقد نشهد هذه الممارسات بشكل يومي في السكن والعمل والزواج وتطبيق القانون والاعتقالات واستخدام العنف. وقد أجريت العديد من الدراسات في هذا الموضوع التي تثبت بدون أدنى شك أن تطبيق القانون على الأبيض شيء وتطبيقه على السود شيء آخر.

البطالة مثلا عادة تكون عند السود ضعف نسبتها عند البيض. فقبل انتشار وباء كوفيد-19 انخفضت نسبة البطالة إلى 3.5 في المئة بينما كانت عند السود نحو 7 في المئة. وفي عام 2010 حيث كانت النسبة عالية وصلت في البلاد إلى 9.6 في المئة كانت عند السود 16 في المئة. معدل ملكية الشخص الأبيض (أصول وسيولة) في الولايات المتحدة تصل إلى 171600 دولار، بينما تنخفض عند السود لتصل إلى 17.600 دولار.

وحتى بالنسبة للوفيات من جراء فيروس كورونا فتصل نسبة الوفيات عن السود إلى 30 في المئة علما أنهم يشكلون 13 في المئة من السكان. في ولاية ميتشيغان تصل نسبة الوفيات عند السود 40 في المئة ونسبة السود للسكان لا يتجاوز 14 في المئة. وفي لويزيانا تصل نسبة الوفيات بين السود بسبب كورونا إلى 70 في المئة بينما لا يشكل السود إلا 33 في المئة من السكان. وهكذا ينطبق الأمر على بقية الولايات. وهذا راجع أساسا إلى قلة المناعة وانعدام التأمين الصحي. وتصل نسبة السود الذين لا يملكون القدرة لمراجعة طبيب نحو 20 في المئة أو مراجعة مستشفيات للفحوص الوقائية. والسود في غالبيتهم لا يملكون القدرة على التخير في أغذيتهم واختيار الأطعمة الصحية وبالتالي يتعرضون أكثر لأمراض السكر والسمنة الزائدة وارتفاع الضغط وأمراض القلب والرئتين والعديد من الأمراض المزمنة والتي في حاجة إلى متابعة مستمرة وأنواع أغذية معينة فينتهي بهم الأمر لوفاة مبكرة وسهولة الإصابة بفيروسات عابرة مثل كورونا. أضف إلى ذلك أن نسبة عالية من السود يمارسون العديد من الأعمال اليدوية والتي تعرضهم للخروج والاحتكاك مع الناس بدل العمل من البيوت مثل سائقي السيارات وعمال النظافة والمطاعم والقطارات والمحلات التجارية الصغيرة. كما أنهم غالبا يسكنون في المناطق المكتظة في المدن الكبرى والأحزمة السكنية قليلة التجهيز والمباني الكبرى المخصصة لذوي الدخل المنخفض.

هل حصل تقدم في معاملة السود؟

 الجواب نعم لكن لا يكفي. فحسب دراسة لمعهد بروكنغز حول التقدم الذي أحرزه السود في الخمسين سنة الأخيرة وجد في عام 1940 فإن 60 في المئة من السوداوات كن يعملن خادمات في البيوت، انخفضت النسبة اليوم إلى 2.2 في المئة، و60 في المئة يحتللن الآن وظائف ما يطلق عليه هنا “وظائف الياقة البيضاء” كموظفي البنوك والوظائف الحكومية ومؤسسات وأساتذة الجامعات والمدارس. وفي عام 1958 أقر 44 في المئة من البيض أنهم سيغادورن مكان السكن لو سكن أسود في البيت المجاور، هذه النسبة انخفضت الآن إلى 1 في المئة. وفي عام 1964 عند إقرار قانون الحقوق المدنية أقر 18 في المئة من البيض فقط أن لديهم صديقا واحدا أسود. أما اليوم فنحو 86 في المئة يقرون بأن لديهم أصدقاء سود و87 في المئة من السود يقرون بأن لديهم أصدقاء بيض. وهناك نحو 40 في المئة من السود يعتبرون أنفسهم من “الطبقة الوسطى” و42 في المئة يملكون مكان سكناهم ويكسب زوج وزوجة من السود أقل 13 في المئة مما يكسب نفس الزوجين من البيض عن القيام بالعمل نفسه.

لكن المجال الأكبر الذي بحاجة إلى تعديل وتحسين هو إنفاذ القانون وخاصة جهاز الشرطة الذي لا يتمتع بثقة المواطنين السود. فنسبة السود الذين يثقون بالشرطة لا تزيد عن 42 في المئة بينما ترتفع النسبة إلى 70 في المئة عند البيض. و32 بالمئة من البيض يحذرون أولادهم من التعامل مع الشرطة وترتفع النسبة إلى 74 في المئة عند السود. وحول المعاملة الخشنة للشرطة مع المواطنين أقر 31 في المئة من اللاتينيين (من أمريكا الجنوبية أساسا) بأن معاملة الشرطة لهم خشنة، بينما قال 54 في المئة من السود أن معاملتهم خشنة بينما أقر 19 في المئة فقط من البيض بأن معاملة الشرطة لهم خشنة، و76 في المئة من السود قالوا إن الشرطة لا تساوي بينهم وبين البيض في المعاملة.  وعندما برأ القضاء الشرطي دانيل بانطالو، الذي قتل إريك غارنر عام 2014 في ستيتن آيلاند بالطريقة نفسها التي قتل فيها جورج فلويد، أقر 87 في المئة من السود أن الحكم غير عادل وأنهم أصيبوا بالخيبة لهذا الحكم بينما عبّر 27 في المئة من البيض عن بهجتهم لهذا الحكم واعتبر 49 في المئة منهم أن الحكم مخيب للآمال.

هذه صورة مقتضبة عن العنصرية ضد السود في هذه البلاد. صحيح أن تقدما حصل خاصة في سوق العمالة والقبول المجتمعي وتغير أنماط السلوك إلا أن المشوار طويل للوصول إلى مجتمع خال تقريبا من العنصرية وخاصة في القضاء. لعل هذه الانتفاضة الحالية التي أطلقتها جريمة قتل جورج فلويد النكراء أمام عيون العالم، تحقق مزيدا من الإنجازات للسود والأقليات وصولا إلى دولة المواطنة المتساوية ليس في القوانين فحسب بل في تطبيقها. نتوقع أن يأتي ذلك اليوم مع حلول عام 2050 عندما تصبح الأقليات في الولايات المتحدة الأغلبية كما يتوقع خبراء الديموغرافيا.