عبد الحميد صيام
المؤتمر الشعبي الفلسطيني يقرع جدران الخزان
تفاءل الفلسطينيون خيرا بالاتفاق الذي عقد في الجزائر بين 14 فصيلا فلسطينيا تحت عنوان «إعلان الجزائر»، الذي تم برعاية مباشرة من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. والبيان في جوهره يؤكد ضرورة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والتوجه نحو الانتخابات التشريعية والرئاسية، وانتخاب مجلس وطني فلسطيني خلال عام.
إذن هناك قناعة لدى كل فصائل العمل الفلسطيني، والنخب السياسة، بأن هناك أزمة عميقة تواجهها القضية الفلسطينية في ظل الانقسامات الداخلية والتطبيع العربي والتغول الإسرائيلي، واهتمام العالم بقضايا أخرى أهمها الحرب الروسية الأوكرانية وأزمتا الغذاء والطاقة. وللخروج من المأزق الذي وصلته القضية تكون نقطة البداية الانتخابات التي ستحرك المياه، وتأتي بقيادات جديدة تمثل الشعب الفلسطيني حقيقة في كل مكان.
والشعب الفلسطيني حاليا لديه مجموعة قناعات لا نشك في صدقيتها، وأول تلك القناعات، أن حل الدولتين لم يعد قائما، والاستمرار في طرح هذا الحل مضيعة للوقت، وضحك على الذقون وتعميم للوهم. وثاني تلك القناعات، أن إسرائيل تريد الأرض كلها، وتسعى لتغييب الشعب الفلسطيني وتدميره وحمله على الاستسلام. وثالث تلك القناعات، أن السلطة الفلسطينية ليس لديها أي رؤية للخروج من المأزق الوجودي التي دخلت فيه، وأدخلت معها الشعب الفلسطيني منذ اتفاقيات أوسلو التي ولدت ميتة والتمسك بها من قبل السلطة لا يعني أكثر من تمسك بمصالح هذه الفئة لا أكثر ولا أقل. وأخيرا هناك قناعة لدى الشعب الفلسطيني بأن الاحتلال لن ينتهي إلا بتحويله إلى مشروع خاسر سياسيا واقتصاديا ومعنويا، ولن يتأتى ذلك إلا بالمقاومة بمعناها الشامل. من هنا جاءت المبادرات السياسية من تجمعات ونخب وناشطي الشعب الفلسطيني في كل مكان. ولا يكاد يخلو تجمع فلسطيني من طرح مبادرة أو تأسيس منظمة أو ملتقى كلها تنشد التغيير، والبحث عن بدائل للخروج من عنق الزجاجة. ومن هنا اكتسبت مبادرة «المؤتمر الشعبي الفلسطيني ـ 14 مليون» كل هذا الزخم، لأنها ببساطة تدعو إلى تجديد الحيوية في العمل السياسي الفلسطيني، وإشراك أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان، عن طريق بناء حركة جماهيرية واسعة تضغط باتجاه كسر الجمود والتوجه مباشرة إلى عقد انتخابات لمجلس وطني لأبناء الشعب الفلسطيني أينما كانوا. من هنا انطلقت فكرة المؤتمر الشعبي الفلسطيني، التي تبلورت في السنوات الثلاث الأخيرة بين مجموعة من الفلسطينيين المستقلين، ينتظمون في «الحملة الوطنية لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية» ومجموعة «التحالف الشعبي للتغيير»، وشكلا تجمعا شعبيا يجمع ناشطي الداخل والخارج معا ليصنعوا بارقة أمل ويطلقوا صرخة في الظلام، ويدقوا جدران الخزان للخروج من دوامة الجمود وانسداد الأفق.
كان من المتوقع أن تتصرف السلطة إزاء هذه المبادرة بكل تفهم وأريحية وترحاب. ففكرة المؤتمر قائمة بشكل أساسي على فكرة تكريس منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وتجديد حيويتها وإصلاح ما طرأ عليها من خلل. وكيف يتم ذلك؟ عن طريق الانتخابات الحرة والشاملة للأربعة عشر مليون فلسطيني. لا يوجد ما يثير أو يشكك أو يدعو للخوف أو التوجس. على العكس كان يجب الترحيب بالفكرة وامتطاء الموجة، بدل التصرف بطريقة غير لائقة.
فرصة ثمينة أن تنطلق من هذا المؤتمر حركة جماهيرية تعيد ترتيب البيت الفلسطيني، تبني وتجدد وتدفع الشعب الفلسطيني ليتسلم زمام الأمور بعد تغييبه طويلا
– في الثاني من نوفمبر، قررت وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية سحب ترخيص استخدام قاعة بلدية رام الله، الذي حصلت عليه اللجنة التحضيرية بطريقة شرعية. وكانت اللجنة التحضيرية قد قدمت جميع الأوراق الرسمية إضاقة إلى مسودة بيان المؤتمر، لكل من محافظ رام الله ورئيس بلدية رام الله، الذي بموجب تلك الأوراق منح تفويضا لاستخدام قاعة البلدية. وكانت وزارة الداخلية قد منعت عقد مؤتمر صحافي في قاعة بلدية البيرة في الأول من نوفمبر للترويج للمؤتمر الشعبي، دون إعطاء أسباب لهذا المنع، إلا أن اللجنة رغم هذا التعطيل، عقدت مؤتمرا صحافيا حضره عشرات الصحافيين ووكالات الأنباء وبث حياً على عدد من الفضائيات
– في يوم المؤتمر صباح الخامس من نوفمبر، كانت سيارات الأمن تنتظر خارج مقر انعقاد المؤتمر البديل، ثم داهمت المقر قبل انطلاق المؤتمر بساعتين ونصف الساعة واعتقلت منسق المؤتمر عمر عساف ورئيس اللجنة الإعلامية زياد عمرو، ما أثار موجة عارمة من الغضب الشعبي وبيانات الاستنكار. وتناقلت الخبر كل وكالات الأنباء والإذاعات والفضائيات المحلية والعربية، حتى إن هذا الاعتقال لعب لصالح المؤتمر من غير أن تقصد ذلك جماعات السلطة، فاضطروا أن يطلقوا سراح المعتقلين قبيل نهاية المؤتمر، الذي حقق نجاحا كبيرا استمع فيه المشاركون والحضور الذين زاد عددهم عن 1500 مشارك فلسطيني من الضفة وغزة والداخل الفلسطيني وعمان وأوروبا والأمريكيتين، مجسدين بذلك وحدة الشعب الفلسطيني حقيقة لا مجازا.
– قامت السلطة باقتحام مقر التجمع الشعبي للتغيير يوم 7 نوفمبر، حيث كان عمر عساف وأمل خريشة يعقدان مؤتمرا صحافيا بحضور عدد من وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، وتم قطع التيار الكهربائي ومنع المتحدثين من إكمال المؤتمر.
– تعرض المؤتمر والقائمون عليه إلى حملة تشويه وصلت إلى حد ظهور روحي فتوح رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، المعين من قبل محمود عباس، إلى الظهور على المحطات الفضائية لاتهام المشاركين بمحاولة إيجاد بديل لمنظمة التحرير. كما أطلقت السلطة العنان لنؤيديها لمهاجمة القائمين على الفكرة، وكيل التهم لهم، إما بالعمالة أو بالمتاجرة واستلام الأموال من الخارج، والتنسيق مع دحلان وحماس، وغير ذلك من التهم وهذا دليل على هشاشة السلطة وتخوفها من أي حركة جماهيرية صادقة.
إن أهم ما طرحه المؤتمر الشعبي الفلسطيني هو وحدة الشعب الفلسطيني والعودة إلى السردية الفلسطينية الأساسية القائمة على وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة القضية. لقد فرطت اتفاقية أوسلو في الثوابت الفلسطينية: جزأت الأرض وجزأت الشعب وجزأت الحقوق ـ وبعد 30 عاما تقريبا من ذلك الاتفاق الخطير نشاهد أن الأرض مهددة بكاملها بالابتلاع والشعب مهدد بكامله بالاقتلاع والحقوق مهددة بكاملها بالضياع. لكن الأخطر من ذلك أن يبقى القيّمون على الشأن الفلسطيني متمسكين بهذا الاتفاق الخطير، لأنه يخدمهم هم ولا يخدم الشعب الفلسطيني، وقد هددوا مرارا وتكرارا بإعادة النظر في الاتفاق، وإعادة النظر بالعلاقات مع الكيان الصهيوني، لكن تلك التهديدات لم تزد عن كونها هذرا للاستهلاك المحلي. أما النقطة الأكثر أهمية فهي إدماج أبناء فلسطين التاريخية، ربما لأول مرة، منذ اعتماد الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1968 في حركة جماهيرية فلسطينية عابرة للجغرافيا. فقد درجت العادة أن يتم تجاهل فلسطينيي الداخل، والذين تجاوز عددهم المليونين وكأنهم غير معنيين بالمشروع الوطني الفلسطيني. ومع زيادة الوعي لدى الأجيال الفلسطينية في الداخل وتفاعلهم مع قضايا شعبهم الفلسطيني، كما تبين جليا في هبة مايو 2021 وقبلها في مواجهات أكتوبر 2000 وقبلها في حركة يوم الأرض عام 1976 كان لا بد أن يلتقي هذا الجزء الأساسي والمهم من شعبنا مع بقية الشظايا الفلسطينية ليكونوا معا أيقونة وحدة الشعب، التي لا انفكاك منها. وكم كان جميلا ومؤثرا أن يستمع المشاركون في المؤتمر إلى كلمات من فلسطينيين في بريطانيا وبلجيكا والولايات المتحدة والبرازيل والسلفادور، مثلما ألقيت كلمات من غزة ورام الله ونابلس وجنين والخليل وعمان. وشيء آخر تميز به المؤتمر الشعبي الفلسطيني هو بساطة الطرح والبرنامج، ما سهل انهيال آلاف المؤيدين وطالبي الانضمام. لأنه من جهة لا يفرط في الثوابت الفلسطينية كوحدانية وشرعية تمثيل منظمة التحرير ومن جهة أخرى يدعو إلى انتخاب مجلس وطني فلسطيني لكل أبناء وبنات الشعب الفلسطيني في كل مكان. إن التغيير لن يأتي من السلطة نفسها التي أصبحت عبئا ثقيلا على الشعب الفلسطيني، تساوم أبناءه المناضلين على تسليم أسلحتهم ووقف انتفاضتهم. إنها بكل بساطة حجر عثرة على طريق المشروع الوطني الفلسطيني. إن تثبيت الحالة الراهنة أصبح من المحال. فإما انفجار عشوائي أو حركة جماهيرية منظمة تسترد ما هو ملك للشعب. إنها فرصة ثمينة أن تنطلق من هذا المؤتمر حركة جماهيرية عارمة تعيد ترتيب البيت الفلسطيني، تبني وتصلح الخراب وتجدد وتدفع الشعب الفلسطيني ليتسلم زمام الأمور بعد تغييبه لسنوات طويلة.
ولعل من حسن الحظ أن ينعقد هذا المؤتمر بعيد الانتخابات في الكيان الصهيوني، التي أوصلت الفاشيين إلى السلطة الذين يتوعدون بالبطش والقتل والترحيل واستخدام القوة المطلقة ضد شعبنا الفلسطيني. فهل سنواجه المرحلة الخطيرة المقبلة بالأساليب الماضية البالية التي ثبت فشلها مرة وراء مرة؟ المؤتمر الشعبي الفلسطيني خطوة في الاتجاه الصحيح.