عبد الحميد صيام يكتب:
الحرب على غزة والدور الأممي في تشريع العدوان
منذ بداية الهجوم الأخير على غزة أصدر منسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط وممثل الأمين العام لدى السلطة الفلسطينية، تور وينيسلاند، مجموعة بيانات مقتضبة حول التطورات الميدانية، ثم قدم مداخلة في مجلس الأمن يوم الإثنين الماضي في الجلسة المفتوحة للمجلس التي عقدت لبحث العدوان الإسرائيلي على غزة وأصدر بيانات متابعة بعد توقف الهجوم وهو ما يسميه وينيسلاند وقف إطلاق النار.
ولأن الشيطان في التفاصيل والسم في الدسم والإشارات المبطنة أخطر من الكلام الإنشائي المكرر، لا بد من التمحيص بشكل دقيق فيما يقوله هذا الدبلوماسي النرويجي، أحد صناع اتفاقية أوسلو هو ومديره الأسبق، تيري رود لارسن، والذي احتل نفس الموقع أيام الانتفاضة الثانية ولشدة تحيزه ضد الفلسطينيين طالب ناصر القدوة، سفير فلسطين في الأمم المتحدة آنذاك، بإعلانه شخصا غير مرغوب فيه. ولذلك أرى من الضرورة الانتباه الدقيق لما يقوله هذا الرجل الذي يكاد يشرعن العدوان على الشعب الفلسطيني وبطريقة ذكية، وسأحاول أن ألتقط بعض تلك الإشارات الملغومة. وللعلم فقد كتبت عنه أكثر من مرة ونبهت لخطورته مرارا وطالبت بإعلانه «شخصية غير مرغوب فيها» وعدم التعامل معه وتقديم مذكرات احتجاج ضد مسلكيته ومواقفه ولغته وتعابيره وغيابه المتواصل عن ساحة النزاع.
يقول في بيانه الأول يوم الجمعة عند بدء الهجوم الجوي على غزة إنه شعر بالقلق العميق للتصعيد الجاري حاليا «بين الفلسطينيين المتطرفين وإسرائيل بما في ذلك القتل المتعمد لأحد قادة الجهاد الإسلامي». فمجرد وضع اسم الفلسطينيين المتطرفين قبل إسرائيل يعني بكل بساطة أنه أصدر حكما قاطعا في من بدأ الاشتباكات. وهذا ما تريده إسرائيل، كي تجد المبررات لمتابعة عدوانها الذي بدأ في جنين وليس في غزة. ثم يتابع وينيسلاند في بيانه يوم 5 آب/أغسطس: «التصعيد الحالي خطير جدا. إطلاق المقذوفات (يسمونها صواريخ) يجب أن يتوقف فورا وأدعو جميع الأطراف إلى وقف مزيد من التصعيد». فعندما تعلق الأمر بالفلسطينيين كان واضحا تماما بضرورة وقف إطلاق المقذوفات لكنه لم يجرؤ على مطالبة إسرائيل بوقف القصف الجوي المدمر والذي استهدف المدنيين بل اكتفى بمطالبة الأطراف كي يشمل إسرائيل ضمنا لا نصا. وقال إن الأمم المتحدة تتابع مع كافة الأطراف المعنية لوقف مزيد من النزاع والذي سيكون له عواقب وخيمة على كافة الأطراف وخاصة المدنيين. نلاحظ أنه يستخدم كافة الأطراف كثيرا ليضع الطرفين على نفس المستوى وكأن هناك جيشين متقابلين متوازيين عددا وعدة وأجهزة تنصت واستخبارات واتصالات، ووصل الجيشان إلى حالة من التوازن لا مناص لهما من التراجع عن حافة الهاوية. هذا هو قمة الانحياز للمعتدي وتحميل الطرف المحتل المحاصر المجوع جل المسؤولية.
أصدر وينيسلاند بيانه الثاني يوم 7 آب/أغسطس حيث رحب فيه «بوقف إطلاق النار في غزة وإسرائيل بعد أيام من الصراع». وقال إنه «حزين على من فقدوا أرواحهم أو أصيبوا بمن فيهم الأطفال». إذن هو وقف إطلاق نار بين غزة وإسرائيل وليس توقف العدوان على غزة. والاتفاق أصبح مع غزة كلها وكأن غزة دولة مستقلة ودخلت في حرب شاملة مع إسرائيل. في البيان الأول تحدث عن عناصر متطرفة وفي البيان التالي عن غزة كلها وهذا مقصود، لأنه يريد لتوقف المواجهات أن تشمل كافة أطياف فصائل المقاومة واعتبار الاتفاق ساري المفعول بين «كيان غزة ودولة إسرائيل».
ولا أفضل من اقتباس أحد المعلقين على كلام وينيسلاند على حسابه بتويتر حيث وضع صورة الضحايا الست عشرة وكتب: «هذه هي أسماء ووجوه الضحايا الست عشرة الذي قتلتهم الغارات الجوية الإسرائيلية في الأيام الثلاثة الأخيرة. تأمل وجوههم جيدا. هؤلاء بشر ولديهم عائلات وأحلام ومستقبل. إنها حرب إبادة وليست مواجهات».
الجلسة المفتوحة لمجلس الأمن الدولي
بناء على طلب من فلسطين ومصر والنرويج وإيرلندا والصين والإمارات، العضو العربي الوحيد في المجلس، عقد مجلس الأمن الدولي جلسة مفتوحة يوم الإثنين 8 آب/أغسطس الساعة الثالثة بعد الظهر استمرت ساعتين تحدث فيها أولا تور وينيسلاند ثم ممثل فلسطين رياض منصور تلاه ممثل الكيان الصهيوني جلعاد إردان، إضافة إلى مصر وأعضاء المجلس الخمسة عشر.
في مداخلته أمام المجلس من القدس رحب منسق عملية السلام تور وينيسلاند بوقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه في غزة وإسرائيل، لكنه حذر من أنه يظل هشّا وأن أي استئناف للأعمال العدائية سيحمل عواقب وخيمة على الفلسطينيين والإسرائيليين وسيجعل أي تقدم سياسي بعيد المنال. وواضح من الجملة الأولى أنه يحمل الفلسطينيين المسؤولية باستخدام مصطلح «الأعمال العدائية» التي ارتبطت بإطلاق المقذوفات البدائية التي لم تقتل أحدا، بينما يتعامى عن الغارات الجوية المدمرة و«الاستخدام المفرط للقوة». ويحذر وينيسلاند بأن أي استئناف للأعمال العدائية سيجعل أي تقدم سياسي بعيد المنال. ونسأل أين هو التقدم السياسي؟ ولماذا لا يكون هناك أي تقدم سياسي في الضفة الغربية مع السلطة، أم أن الهدف هو تحميل الفلسطينيين المسؤولية عن عدم إحراز تقدم على طريق حل الدولتين، كما يكرر وينيسلاند باستمرار؟
تطرق وينيسلاند في مداخلته أمام المجلس إلى الخسائر التي تكبّدها الطرفان خلال المواجهات. وقال منذ الخامس من آب/أغسطس، شن الجيش الإسرائيلي 147 غارة جوية ضد أهداف في غزة. كما أطلق مسلحون فلسطينيون قرابة 1100 صاروخ وقذيفة هاون باتجاه إسرائيل، سقط الكثير منها في عمق الأراضي الإسرائيلية. وأفادت التقارير بسقوط حوالي 20 في المئة منها داخل القطاع ما تسبب بأضرار.
وهذا، في رأينا، من أخطر التصريحات، إذ إنه يتبنى الرواية الإسرائيلية في سقوط مقذوفات المقاومة داخل قطاع غزة وأن المدنيين الذين قتلوا ليس من فعل الغارات الإسرائيلية بل من صواريخ المقاومة.
وقال وينيسلاند، خلال التصعيد، قُتل 46 فلسطينيا وأصيب 360 بجراح، وتضررت أو دمرت مئات الوحدات السكنية، إلى جانب بنى تحتية مدنية أخرى. كما تم تدمير ما لا يقل عن 10 منازل بالكامل، وتضرر 48 منها بشدة وباتت غير صالحة للسكن. ووفقا للسلطات في غزة، تضرر أكثر من 600 وحدة سكنية، ما أدى إلى تشريد 84 أسرة. كما أصيب 70 إسرائيليا، بينهم تسعة أطفال، بجراح ولحقت أضرار بمبانٍ سكنية ومدنية أخرى.
ثم يعلق وينيسلاند على هذه الأحداث مقدما المبرر الإسرائيلي أولا فيقول: «مع الاعتراف الكامل بشواغل إسرائيل الأمنية المشروعة، أكرر أنه بموجب القانون الدولي، يجب أن يكون كل استخدام للقوة متناسبا واتخاذ جميع الخطوات الممكنة لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين».
هذا كل ما تريده إسرائيل تبرير الغارات الجوية بالشواغل الأمنية المشروعة.
وأشار المسؤول الأممي إلى أن وقف إطلاق النار دخل حيّز التنفيذ في تمام الساعة 11:30 من مساء الأحد 7 آب/أغسطس بالتوقيت المحلي، وأعلن أنه ما زال ساري المفعول حتى هذه اللحظة. وأثنى على مصر لدورها الحاسم في تأمين وقف إطلاق النار، كما أطرى على الدعم الذي قدمته قطر والولايات المتحدة والأردن والسلطة الفلسطينية وغيرهم لتهدئة الوضع.
وشدد في ختام إحاطته على أن دوامة العنف لن تتوقف سوى عند التوصل إلى حل سياسي للصراع ينهي الاحتلال، وتحقيق حل الدولتين على أساس حدود 1967 بما يتماشى مع قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي والاتفاقيات السابقة. تكرار لشعارات مخادعة، تم سلب 60 في المئة من الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس والمجتمع الدولي يتحدث عن حل الدولتين الذي لا بديل له.
وفي النهاية انفضت الجلسة بدون أن يصدرعنها أي بيان صحافي ولا حتى عناصر لبيان صحافي ولا أي بيان رئاسي. فعندما يتعلق الأمر بهذا الكيان تنتهي المبادئ ويسقط القانون الدولي ويتم التعامي عن الضحايا الحقيقيين. يجتمع المجلس فقط تحت شعار «قل كلمتك وامش». وكما قال السفير الفلسطيني رياض منصور في كلمته مخاطبا أعضاء المجلس «تزعم إسرائيل أنها تدافع عن نفسها دائما حتى عندما تهاجم الشعب الفلسطيني. إذا كنتم تناهضون العنف، فلا تبرروا العنف الإسرائيلي.. ولا تشجعوا عليه، فهل الحق في الأمن يصبح رخصة للقتل؟ لهذا المجلس موقف واضح من حماية المدنيين؟ هل حياة مدنيّينا أقل جدارة بالحماية من غيرهم من المدنيين؟ هل هم بطريقة ما استثناء لكل قاعدة؟ هل هم في منطقة لا ينطبق عليها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي؟».
بوجود ممثل للأمم المتحدة في فلسطين المحتلة مثل تور وينيسلاند تكون الإجابة عن هذه التساؤلات بالإيجاب.