عبد الحميد صيام يكتب:

عالم في مرحلة انتقالية – لا القديم انقضى ولا الجديد استوى على عوده

تنعقد الدورة السابعة والسبعون الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة في ظل متغيرات عالمية لم تكن موجودة في الدورة السابقة. ففي الدورتين السابقتين كانت جائحة كورونا التطور الأبرز والتحدي الأخطر على المسرح العالمي، وما تركته من أثر وفواجع جعل الدورتين الخامسة والسبعين والسادسة والسبعين تعقدان عن بعد أو بحضور محدود جدا. هذه الدورة ستكون كلها حضوريا بعد تراجع الجائحة، لكن المستجدات هذا العام تكاد تكون أخطر من سوابقها. نحن أمام مواجهات دموية بين كتلتين كبيرتين تكادان تدفعان العالم إلى حرب كونية كبرى، يظن البعض أنها أصلا قائمة. هناك مواجهات بين قوة أمروأوروبية تريد أن تحافظ على موقع الهيمنة التي تبوأته منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وهناك من يتحدى هذه المنظومة ويريد أن يطيح بها لصالح التعددية وتوزيع مركز القرار ليصبح تشاركيا.
نحن نعيش الآن هذه المرحلة التاريخية التي قد تفضي إلى عالم جديد، وكل ذلك يعتمد على نتائج المواجهة، فهزيمة الاتحاد السوفييتي عام 1989 أدت إلى تفكك الإمبراطورية الشيوعية الكبرى وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية كلها بعد أكثر من 70 سنة، وانتهاء مرحلة القطبين وقيام مرحلة جديدة تقوم على هيمنة القطب الواحد. لقد استمرت تلك الهيمنة المطلقة نحو عقدين من الزمان، إلا أن الولايات المتحدة تورطت في حربين في العراق وأفغانستان ولم تنتصر في أي منهما. صحيح أنها خرجت من العراق بشي من ماء الوجه، بعد أن أقرت بتقاسم النفوذ مع إيران، إلا أن الشعب الأفغاني لم يعطها هذه الفرصة فأخرجها بعد عشرين سنة مُهانة مُذلة، يتسابق ضباطها وجنودها وعملاؤها للعربشة على الطائرات المقلعة في رحلة الذهاب فقط. وهذه الهزيمة لم تكن المظهر الأول للوهن الأمريكي، بل سبقته مجموعة من العوامل كلها تشير إلى أن الدولة التي تفردت بالقمة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يعد في مقدورها أن تحافظ على موقعها.

على نتائج الحرب الأوكرانية ستترتب أمور كثيرة ما زال الغبار يملأ الأجواء ويحجب الرؤيا، لكن بالتأكيد ستختلف الأمور بعد الانتهاء من هذه الحرب

لقد أفرزت الحرب العالمية الثانية عالما ثنائي القطبية، تتقاسم الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي قوة التأثير السياسي والأمني والعسكري في العالم، إلا أن القوة الأمريكية كانت كاسحة لا تضاهى، فقد استحوذت على 25% من حاصل النتاج القومي عالميا، كما أنفقت على ميزانيتها العسكرية أكثر من الدول العشر، التي تليها في الإنفاق مجتمعة، كما تصدرت التكنولوجيا الأمريكية المجالات كافة، من غزو الفضاء الخارجي إلى إنتاج أفضل طائرات النقل الجوي والأسلحة المتطورة والآلات الثقيلة وصناعة السيارات وصولا، إلى ثورة الكمبيوتر والشبكة العنكبوتية وثورة الاتصالات التي لا مثيل لها. هذه الصورة للدولة الأقوى والأغنى بدأت تهتز وتتراجع بالتدريج، رغم محاولاتها التشبث بموقعها، من دون جدوى، وما هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 إلا تذكير بأن الدولة الأعظم يتم تحديها في عقر دارها. لقد تصرفت ردا على الهجمات كالثور الهائج، الذي يحاول تدمير الخصم فيؤذي نفسه. ردود فعلها كانت بداية التحول والتراجع والانحدار في المجالات كافة.

مظاهر الوهن

دعني أذكّر ببعض مؤشرات التراجع وعوارض الوهن التي ظهرت على جسم أقرب إلى الشيخوخة والانحدار:
أولا ـ هجمات 11 سبتمبر والترهل الأمني
لقد كشفت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ليس فقط أن مناعة الولايات المتحدة داخليا يمكن اختراقها وتوجيه ضربات موجعة للدولة الأقوى في العالم في عقر دارها، بل إن هناك عورات في النظام الأمني الداخلي وغياب التنسيق بين الأجهزة الأمنية، وعدم التقاط الإشارات في وقتها والتصرف قبل الأوان. لم يكن سرا أن تنظيم «القاعدة» أعلن الحرب على أمريكا عام 1998 ووجه أولى ضرباته على سفارتي الولايات المتحدة في تانزانيا وكينيا، مخلفا أكثر من 270 ضحية لحق بها الهجوم الكاسح على المدمرة الأمريكية كول في ميناء عدن عام 2000 مخلفا 17 قتيلا من قوات البحرية. فكيف لمن تعرض لمثل هذه الضربات لا يتنبه لما هو آتٍ وتوقع المزيد.
ثانيا- الحرب على أفغانستان
لقد كان رد الولايات المتحدة المتسرع وغير المدروس هو السقوط في المستنقع الأفغاني، إذ أعلنت الحرب على أفغانستان في 6 أكتوبر 2001 والتي انتهت بهزيمة طالبان وطردها من البلاد، إلا أن الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في أفغانستان ساهمت في عودة طالبان تدريجيا إلى البلاد، ولم تدرك الولايات المتحدة أن إنشاء جيش أفغاني يصل إلى ثلاثمئة ألف، من دون قناعة أو عقيدة قتالية لن ينقل أفغانستان إلى الديمقراطية، ولن ينقذ حكومة عبد الغني الموالية لواشنطن. اضطرت الولايات المتحدة أن تفاوض طالبان «الإرهابية» حسب تصنيفهم، وتبرم معها في الدوحة اتفاقية يوم 29 فبراير 2020 للانسحاب مع نهاية سبتمبر 2021 إلا أن انهيار حلفاء الولايات المتحدة، أدى إلى نهاية مذلة شاهدناها في مطار كابل تذكرنا بانسحابها من سايغون عام 1975.

ثالثا- الحرب على العراق

إن من أسوأ قرارت إدارة بوش السابقة هي شن الحرب على العراق عام 2003 واحتلاله، مدفوعة بشهية الانتقام لهجمات 11 سبتمبر 2001 لكنها اختارت الهدف الخطأ والمبرر الأكثر خطأ، لقد فشلت الولايات المتحدة باستصدار قرار من مجلس الأمن يشرعن الحرب رغم الضغوطات الكبرى التي مارستها على أعضاء المجلس غير الدائمين مثل، المكسيك والكاميرون وتشيلي، بل إن حلفاء الولايات المتحدة مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، وقفوا ضد تلك الحرب التي وصفها الأمين العالم الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، بأنها حرب غير شرعية، تلك الحرب كانت كارثية على الولايات المتحدة واقتصادها وموقعها ودورها، وأوصلت البلاد عام 2008 إلى حافة الانهيار الاقتصادي، وأدت إلى فوز باراك أوباما الذي قطع عهودا في حملته الانتخابية بالانسحاب من العراق وأفغانستان. صحيح أنه انسحب من العراق عام 2011 إلا أن الولايات المتحدة تركت بلدا ممزقا حاضنا للجماعات المتطرفة والميليشيات الإيرانية، لقد سلمت الولايات المتحدة العراق لإيران على طبق من ذهب ساهم في توسيع نفوذها في المنطقة، وزعزعة الثقة في الحليف الأمريكي.

رابعا- سوريا وغياب الدور الأمريكي

لا مكان أكثر وضوحا من تآكل الدور الأمريكي مثلما هو في سوريا. كلنا نذكر عندما قال أوباما في أحدى خطاباته «إن أيام الأسد باتت معدودة» ثم عاد وقال «إن استخدام الأسلحة الكيميائية خط أحمر». تغير الموقف الأمريكي بشكل جذري، واستخدمت الأسلحة الكيميائية أكثر من مرة، من دون أي تحرك أمريكي. الفراغ الذي حدث في سوريا ملأته إيران وروسيا وتركيا. ولم يعد هناك أي أثر أو فاعلية للوجود الأمريكي، ولا قيمة لمراهنتها على دعم الأكراد، فلا مصلحة لتقوية شوكتهم لا لتركيا ولا لإيران ولا لسوريا، ومسألة شطبهم مسألة وقت.
خامسا- رئاسة ترامب واحتلال الكونغرس
إن انتخاب دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية أثار حفيظة الحلفاء وتوجسهم من أسلوبه الانتقائي والشعبوي وغير المتوازن في الحكم. لقد فشلت الولايات المتحدة في عهده بالتصدي لجائحة كورونا، وضبطت وهي عاجزة عن مواجهة انتشار الداء وسقوط آلاف الضحايا بشكل لا مثيل له في الدول المتقدمة كافة، ما أساء لسمعة الولايات المتحدة وموقعها بين الدول المتقدمة. والأهم من ذلك، ما جرى يوم السادس من يناير 2021 عندما اقتحم أنصار ترامب مقر الكونغرس الأمريكي وأعلنوا رفض نتائج الانتخابات، ومحاولة فرض ترامب رئيسا لدورة ثانية، تلك كانت قاصمة الظهر. العالم كان يراقب ويكاد لا يصدق أن الولايات المتحدة، أعرق الديمقراطيات في العالم، تنزلق إلى تصرف أقرب إلى دول العالم النامي، وديكتاتوريات العسكر والأحزاب الشمولية. في ظل هذا التراجع كانت الصين تنطلق للوصول إلى قمة الهرم الاقتصادي في العالم. روسيا تعافت اقتصاديا بعد سنوات الفوضى أيام بوريس يلتسين، الهند والبرازيل وجنوب افريقيا تشكل مع روسيا والصين مجموعة «بريكس» لتأخذ مكانها في العالم بعيدا عن الهيمنة الأمريكية. إيران تتمدد في المنطقة من اليمن إلى لبنان إلى سوريا والعراق وحلفاء الولايات المتحدة يتعرضون للقصف في مؤسساتهم ومطاراتهم ومراكزهم الحيوية. فرنسا غاضبة جدا من موقف الولايات المتحدة وتحالفها مع استراليا وبريطانيا. ألمانيا تحاول أن تعيد الهيبة للاتحاد الأوروبي، وتوقع اتفاقية مع روسيا لإنشاء خط أنابيب نورد ستريم 2. في ظل هذه الأوضاع جاءت الحرب الأوكرانية في محاولة أمريكية للتشبث بالموقع القيادي الأول. على نتائج هذه الحرب ستترتب أمور كثيرة ما زال الغبار يملأ الأجواء ويحجب الرؤيا، لكن بالتأكيد ستختلف الأمور بعد الانتهاء من هذه الحرب والتي لا أحد يتكهن متى أو كيف.