الحبيب الأسود يكتب:
المبادرة المصرية في مواجهة رفض الوفاق وتعنت تركيا وانفلات الميليشيات
واهم من يعتقد أن الغزاة الأتراك وحلفاءهم في الداخل سيقفون عند حدود التوافقات الدولية بعد انسحاب الجيش الليبي، فهدفهم التالي هو منابع الثروة بدءا من منطقة الهلال النفطي.
عندما قال أحد المرتزقة السوريين ذات يوم إن مجنديهم من المخابرات التركية أبلغوهم بأن مهمتهم في ليبيا ستكون حراسة حقول وموانئ النفط لم يتعسف عن الحقيقة، وإنما كشف عن أسس المؤامرة متعددة الجنسيات التي كانت تستهدف المؤسسة العسكرية والتي لم تكن تركيا سوى رأس الحربة فيها، واستطاعت جهات إقليمية ودولية تفكيكها، وسعت القاهرة إلى وأدها بتبني مبادرة للحل السياسي، قد تكون آخر المبادرات في هذا السياق، قبل أن تتجه ليبيا إلى تقسيم الجغرافيا الذي لن يؤخره إلا التوافق على تقسيم منابع الثروة.
كان آخر ما يمكن أن ينتظره المراقبون هو انسحاب الجيش من مدن مثل ترهونة، والأصابعة، وقصر بن غشير، التي كانت حاضنة أساسية لقواته، قبل أن تستبيحها ميليشيات الإرهاب والمرتزقة، وتمارس فيها أبشع أشكال الانتهاكات التي لم تقابلها بعثة الأمم المتحدة وبعض القوى الدولية إلا بالتعبير عن القلق إزاءها.
إن أي محاولة لتجاهل المبادرة المصرية تعني الدفع نحو المزيد من التصعيد العسكري وفق رغبة الأتراك، وحلفائهم من الساعين إلى بسط نفوذهم على منابع الثروة، وإلغاء دور الجيش والوصول إلى الحدود الشرقية
الحقيقة أن مشهد تحرير المدن والقرى الليبية من أهلها ليس جديدا، فقد حدث في العام 2011 وفي السنوات التي تلته، وكانت قوات الفتح الميليشياوي تحت هتافات التكبير الخادعة، تقتل وتعتقل وتنهب وتسلب وتغتصب أمام أنظار العالم الذي كان في كل مرة يستعجل النتائج على حساب دماء الأبرياء وصرخات المظلومين.
ألم يكن العالم يدرك أن تلك الميليشيات غير مرغوب فيها من قبل السكان المحليين في ترهونة وبني وليد والأصابعة، وقبل ذلك في صرمان وصبراتة والجميل والعجيلات وورشفانة وغيرها؟
الجواب يقول: بلى، كانت هناك معرفة بتلك الحقيقة، وغزو ميليشيات محلية متشددة لمدن خارج نطاقها، لا يختلف عن الغزو التركي في شيء، سوى أن الأول داخلي والثاني خارجي، والاثنان لهما ذات الأهداف؛ إذلال المعارضين بقوة السلاح المنفلت وتحت إشراف دولي متعجرف باسم شرعية وهمية يحددها الكبار وفق مصالحهم.
لم يهزم الجيش في معاركه في غرب البلاد، ولكنه أدرك أنه مستهدف كونه يمثل سيادة ليبيا المستهدفة بدورها منذ 2011، وأن مصلحة أصحاب القرار تكمن في تسليم الحكم إلى القادرين أكثر من غيرهم على بيع البلاد والتفريط في مقدراتها المالية والاقتصادية وموقعها الاستراتيجي وفي قرارها السياسي.
جاب هؤلاء عواصم العالم غربا وشرقا لإبداء الاستعداد لتقديم الخدمات والتفريط في المساحات والإمكانات لمن ينصرهم على الجيش، وتحديدا أولئك الذين جاء بهم اتفاق الصخيرات قبل خمس سنوات، إما عن طريق الصدفة التي لا تخلو من مخاتلة التوظيف المخابراتي كفايز السراج، أو عن طريق إعادة التدوير السياسي بعد الهزيمة الانتخابية كما هو الشأن بالنسبة للمجلس الأعلى للدولة غطاء الإخوان والجماعة المقاتلة للانقلاب على الشرعية الدستورية والبرلمانية.
أكبر مشاكل ليبيا أن أغلب المتدخلين الإقليميين والدوليين لا يريدون أن تعود الكلمة للشعب، لأنهم يعلمون أنه رافض تماما للنخب السياسية الفاعلة حاليا، ويرى فيها سبب ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، ويتهمها بالخيانة والعمالة والفساد والتفريط في السيادة الوطنية والتآمر على الدولة واستقبال الغزاة الأجانب، وعندما تتوفر له الفرصة سيقول كلمته في اتجاه مختلف تماما عن اتجاه مصالح داعمي ميليشيات الوفاق وعرابي الإخوان.
جاءت المبادرة المصرية في محاولة لقطع الطريق أمام الغزو التركي، وهي مبادرة تكمن أهميتها في أنها صادرة عن قيادة الجيش الفاعل ميدانيا، ولكن كذلك من البرلمان المعترف به دوليا وهو الجهة الوحيدة المنتخبة مباشرة من الشعب عكس المجلس الرئاسي ومجلس الدولة المتمترسين وراء جحافل الإرهابيين والمرتزقة في طرابلس.
ورغم أن تلك المبادرة قد حظيت بالكثير من مؤشرات الدعم، إلا أنها تواجه تحديات عدة أبرزها أن هناك من العرب وخاصة في المنطقة المغاربية باتوا أقرب إلى أنقرة من القاهرة، كما أن هناك من العواصم الغربية من لا تزال تراهن على الإسلام السياسي كمعبر آمن لاختراق الأوطان، وترى في الجيوش والمؤسسات السيادية عموما سدا أمام أطماعها.
لن تكون للمبادرة المصرية أي جدوى إذا لم يتم إقرارها رسميا من قبل مجلس الأمن، ومنحها غطاء شرعيا أمميا يسحب الغطاء عن شرعية الصخيرات المترهلة، ويفرض الاتجاه إلى إعادة تشكيل بنية الدولة الليبية على أسس قيام دولة الاستقلال في العام 1951، إذ ورغم أن في ذلك عودة إلى الوراء بـ70 عاما إلا أنه يبقى أفضل بكثير من الاستمرار في الصراع إلى ما لا نهاية.
يستطيع العالم الضغط على الجيش لأنه أولا وأخيرا مؤسسة سيادية، وقد تم الضغط عليه بشكل غير مسبوق فعلا، ولكن من يستطيع الضغط على المرتزقة والإرهابيين؟
إلى حد الآن كل المعطيات الميدانية تؤكد أن ميليشيات الوفاق بقيادة تركيا لا تزال تواصل اندفاعها نحو سرت باعتبارها البوابة نحو الهلال النفطي، كما هناك تحركات مشبوهة في الوسط والجنوب.
وهناك رفض معلن من حكومة الوفاق للمبادرة، وتعنت تركي، ورفض ضمني جزائري مرتبط بعقدة قديمة نحو الدور المصري، ورفض مغربي غير مبرر، وموقف تونسي متذبذب، وموقف إيطالي لا يخرج عن دائرة الانتهازية السياسية، ومواقف داعمة ولكن لا تصل إلى حد الالتزام التام بمخرجات.
مشهد تحرير المدن والقرى الليبية من أهلها ليس جديدا، فقد حدث في العام 2011 وفي السنوات التي تلته، وكانت قوات الفتح الميليشياوي تحت هتافات التكبير الخادعة، تقتل وتعتقل وتنهب وتسلب وتغتصب أمام أنظار العالم
إن أي محاولة لتجاهل المبادرة المصرية تعني الدفع نحو المزيد من التصعيد العسكري وفق رغبة الأتراك، وحلفائهم من الساعين إلى بسط نفوذهم على منابع الثروة، وإلغاء دور الجيش والوصول إلى الحدود الشرقية.
وهذا يعني الدفع نحو حرب أهلية شاملة، لن تقف فيها الجهات الداعمة للقوات المسلحة على الحياد كما حدث في معركة الجهة الغربية، وخاصة مصر التي أصبح أمنها القومي مرتبطا بسرت والجفرة، وهي تدرك جيدا نوايا النظام التركي والإخوان نحوها، وما يتم التخطيط له لضرب استقرارها من قبل أردوغان وحلفائه.
أصبحت الكرة في مرمى المجتمع الدولي، ولكن البعض يرى أن ذات الكرة سبق أن وضعت في ذات المرمى دون أن يتحقق الهدف، فهل ستحصل المعجزة هذه المرة؟
لا شيء يدفع نحو التفاؤل فعلا، فغرفة العمليات التركية أعدت آلاف المسلحين من فلول تنظيم القاعدة وداعش والإخوان الفارين من أجدابيا وبنغازي ودرنة لتعيدهم إلى المواجهة مع الجيش في المنطقة الشرقية، ودعمتهم بالآلاف من المرتزقة والإرهابيين الوافدين، والخطة التركية القادمة هي شن حرب على الجيش في جنوب وشرق البلاد لإنهاء دوره تماما، فهل تتدخل مصر فعليا لحماية مصالحها في ليبيا؟